( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) استثنى الله تعالى من المحاربين المفسدين في الأرض ، الذين حكم عليهم بأشد الجزاء في الدنيا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، من يتوبون منهم قبل القدرة عليهم ، وتمكن أولي الأمر من عقابهم ; فإن توبتهم ، وهم في قوتهم ومنعتهم ، جديرة بأن تكون توبة نصوحا ، منشؤها العلم بقبح عملهم ، والعزم على عدم العودة إليه ، لا الخوف من عقاب الدنيا ، وهب أنه الخوف من عقاب الدنيا ، أليسوا قد تركوا الإفساد ومحاربة شرع الله ورسوله ، وصاروا كسائر الناس ؟ بلى ! وإذا لا يجمع لهم بين أشد عقاب الشرع في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ; ولذلك يبين الله تعالى أنهم يصيرون بهذه التوبة أهلا لمغفرته ورحمته ، فقال : ( فاعلموا أن الله غفور رحيم ) أي فاعلموا أنه يغفر لهم ما سلف ، ويرحمهم برفع العقاب عنهم ، وهل الذي يرتفع عنهم عقاب الآخرة فقط كما قالوا في توبة السارق ؟ ( وسيأتي حده وحكمه بعد ثلاث آيات ) أم يرتفع عنهم [ ص: 302 ] حق الله كله من عقاب الدنيا والآخرة ، ولا يبقى عليهم إلا حقوق العباد ؟ وإذا يكون لمن سلب التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها ، ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه ، ولهم الخيار كغيرهم بين القصاص والدية والعفو ، أم تسقط عنهم حقوق الله كلها ، وحقوق العباد كلها أيضا ؟ احتمالات آخرها أضعفها ، وأوسطها أقواها ، وقد ثبت عن الصحابة ، ولكن لم يرد أن أحدا تقاضى التائب حقا ، ولم يسمع له الإمام . وإذا جاز إسقاط الحد مطلقا عن التائب فلا يجوز إسقاط المال عنه مطلقا ؛ بل يتجه أن يقال : إن توبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها ، فإذا رأى أولو الأمر إسقاط حق مالي عن المفسدين للمصلحة العامة وجب أن يضمنوه من بيت المال . إسقاط الحد عمن تاب
وقد اختلف علماء السلف في هؤلاء التائبين ، فقيل إنهم المحاربون المفسدون من الكفار إذا تابوا عن الكفر والحرب والفساد ودخلوا في الإسلام قبل القدرة عليهم ، فهم الذين يسقط عنهم كل حق كان قبل الإسلام ; لأنه يجب ما قبله مطلقا ، رواه عن ابن جرير ابن عباس وعكرمة والحسن البصري ومجاهد وقتادة .
وقيل : إنها في المحاربين من المسلمين ، وروى أن ابن جرير حارثة بن بدر كان محاربا في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، فطلب من الحسن بن علي ، ثم من ابن جعفر ، عليهم الرضوان ، أن يستأمن له عليا ، فأبيا عليه ، فأتى سعيد بن قيس فقبله . ( قال الراوي ) : فلما صلى علي الغداة أتاه سعيد بن قيس ، فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ؟ فقرأ علي الآيتين ، فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر ، قال : فهذا حارثة بن بدر جاء تائبا ، فهو آمن ؟ قال : نعم . قال : فجاء به فبايعه ، وقبل ذلك منه ، وكتب له أمانا ، ولكن ليس في الرواية ما يدل على . وقد اشترط بعضهم في التائب أن يستأمن الإمام فيؤمنه ، كما فعل إسقاط حقوق الناس حارثة . وقال بعضهم : لا يشترط ذلك ، بل يجب على الإمام أن يقبل كل تائب ، ورووا في ذلك واقعة محارب جاء أبا موسى تائبا ، وكان عامل عثمان على الكوفة ، فقبل منه ، وواقعة علي الأسدي الذي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم ، ثم سمع رجلا يقرأ : ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) ( 39 : 53 ) الآية ، فاستعادها ، فأعادها القارئ ، فغمد سيفه ، وجاء المدينة تائبا بعد أن عجزت الحكومة والناس عنه ، فأخذ بيده وجاء به إلى والي أبو هريرة المدينة ، وقال له : لا سبيل لكم عليه ، ولا قتل ، فترك من ذلك كله . مروان بن الحكم