ذكر الرازي أن وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها ، يرجع إلى سياق الكلام على أهل الكتاب ; لأن ما بعده جاء على سبيل الاستطراد ، وقد جاء في ذلك السياق أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول وبعض المؤمنين بالسوء وقصد الاغتيال ، لما [ ص: 305 ] كانوا عليه من العتو على الأنبياء وشدة الإيذاء لهم ، وأنهم كانوا هم والنصارى مغرورين بدينهم ، يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فأرشد الله المؤمنين وأمرهم بأن يتقوه ويبتغوا إليه وحده الوسيلة بالعمل الصالح ، ولا يكونوا كأهل الكتاب في افتتانهم وغرورهم ، هذا معنى ما قاله ، والوجه في التناسب عندي أن يبنى على أسلوب القرآن الذي امتاز به على سائر الكلام من حيث كونه مثاني للهداية والموعظة والعبرة ، لا تبلى جدته ، ولا تمل قراءته ، والركن الأول لهذا الأسلوب أن يكون الكلام في كل موضوع مختصرا مفيدا ، تتخلله أسماء الله وصفاته ، والتذكير بوحدانيته ووجوب تقواه والإخلاص له ، والتوجه إليه وحده ، وبالدار الآخرة والجزاء فيها على الأعمال ، فبناء على هذا الأسلوب قفى الله تعالى على قصة ابني آدم وما ناسبها من بيان حدود الذين يبغون على الناس ويفسدون في الأرض بالأمر بالتقوى ، ومنها اتقاء الحسد والبغي والفساد ، الذي هو سبب الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة ، وبابتغاء الوسيلة إليه تعالى والجهاد في سبيله ، رجاء الفلاح والفوز بالسعادة ، وبوعيد الكفار الذين لا يتقون الله ولا يتوسلون إليه بما يرضيه ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه . وسخطه وعقابه أثر لازم لمخالفة سننه في الأنفس والآفاق ، ومخالفة دينه وشرعه الذي يعرج بالأرواح إلى سماء الكمال . والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه ; أي ما يجري أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه ، واستحقاق المثوبة في دار كرامته ، ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى ، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم . قال الراغب : التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة ; لتضمنها معنى الرغبة . . . الوسيلة مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة . انتهى . وروي تفسير الوسيلة بالقربة عن وحقيقة الوسيلة إلى الله حذيفة ، وصححه الحاكم عنه ، ورواه عن ابن جرير عطاء ومجاهد والحسن ، وروى هو وعبد الله بن كثير وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية أنه قال : تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، وروي عن ابن زيد تفسيرها بالمحبة ، قال : أي تحببوا إلى الله ، وقرأ : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ) ( 17 : 57 ) وعن أنها المسألة والقربة ، وروى السدي أن ابن الأنباري نافع بن الأزرق سأل عن الوسيلة فقال : الحاجة ، قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت ابن عباس عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
ولم يرو هذا ، واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة ، وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة ، على أنه لا ينافيه ، كما لا ينافيه تفسيرها بالمحبة ، فإن [ ص: 306 ] طلب الحاجة من الله ومحبة الله مما يتقرب به إليه ، وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم ، وهو المطابق للغة . قال في لسان العرب : الوسيلة في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ، ويتقرب به إليه ، وذلك بعد أن فسر الوسيلة بالمنزلة عند الملك وبالقربة ، وقال : ووسل فلان إلى الله وسيلة ، إذا عمل عملا تقرب به إليه ، والواسل الراغب ، قال ابن جرير لبيد :أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي رأي إلى الله واسل
روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث والبخاري جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته . حلت له شفاعتي يوم القيامة " ، وروى من قال حين يسمع النداء ، أي الأذان : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ، من حديث ابن ماجه عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " " ، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة أن من معانيها المنزلة عند الملك ، فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة ، فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة ، وهي دعاء أيضا ، والجزاء من جنس العمل ، فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة ، وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من علم وعمل . إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة
( وجاهدوا في سبيله ) أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء ، وحملها على التزام الحق في جميع الأحوال ، وجاهدوا أعداء الإسلام الذين يقاومون دعوته وهدايته للناس ; فالجهاد من الجهد ، وهو المشقة والتعب ، وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة ; فكل جهد يحمله الإنسان في الدفاع عن الحق والخير والفضيلة ، أو في تقريرها وحمل الناس عليها ، فهو جهاد في سبيل الله . ( لعلكم تفلحون ) أي اتقوا ما يجب تركه ، وابتغوا ما يجب فعله من أسباب مرضاة الله وقربه ، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيله رجاء الفوز والفلاح والسعادة في المعاش والمعاد .