وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والنحاس في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن وابن أبي حاتم قال : البراء بن عازب موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : اللهم لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " ، وأمر به فرجم ، فأنزل الله : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) إلى قوله : ( إن أوتيتم هذا فخذوه ) يقول : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، فأنزل الله عز وجل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( 5 : 44 ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ( 5 : 45 ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ( 5 : 47 ) . قال : هي في الكفار كلها . مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا ، فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم ، فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على
هذا أصح ما ورد في سبب نزول الآيات ، وهاك تفسيرها : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) الخطاب بوصف الرسول تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد إلا في هذا الموضع ، وفي موضع آخر من هذه السورة ، وسيأتي ، ومثله ( يا أيها النبي ) ( 66 : 1 ) وورد في بضع سور . وفي هذا التشريف والتكريم [ ص: 320 ] تعليم وتأديب للمؤمنين يتضمن النهي عن مخاطبته باسمه والأمر بأن يخاطبوه بوصفه ، وكذلك كان يدعوه أصحابه : يا رسول الله ، وجهل هذا الأدب بعض الأعراب ; لما كانوا عليه من سذاجة البادية وخشونتها ، فكانوا ينادونه باسمه " يا محمد " حتى أنزل الله تعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) ( 24 : 63 ) فلم يعد إلى دعائه باسمه أحد ، ولكن المفسرين يغفلون عن هذا ، فيكرر كثير منهم كلمة " يا محمد " عند تفسيرهم لخطاب الله لرسوله بمثل : ( إنا أعطيناك الكوثر ) ( 108 : 1 ) وما أشبهه من الخطاب ، وأخذه عنهم قراء التفسير ، فيكادون يقولونه في تفسير كل خطاب ، وإن لم يذكر النداء في الكتاب .
والحزن ضد السرور ، وهو ضرب من آلام النفس يجده الإنسان عند فوت ما يحبه ، ويستعمل الفعل الثلاثي منه متعديا بـ " على " كحزن فلان على ولده ، ومتعديا بنفسه ; كحزنه الأمر ، وهذه لغة قريش . وتميم تعديه بالهمزة فتقول : أحزنه موت ولده ، والحزن مذموم طبعا وشرعا مهما كان سببه ; ولهذا نهى الله تعالى عنه في هذه الآية ، وفي آيات أخرى ، وجعل التجرد منه ومن مقابله ، وهو فرح البطر والخفة بالأشياء المحبوبة ، غاية لكمال الإيمان في قوله : ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) ( 57 : 23 ) . وأما الفرح والسرور بالحق والفضل ، دون أعراض الدنيا ولذاتها ، فهو محمود ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ( 10 : 58 ) كما أن حزن الرحمة والرأفة عن موت الولد وغيره من الصفات الفطرية الشريفة ، لا ما تكلفه المرء من لوازمه .
فإن قيل : إن الحزن ألم طبيعي يعرض للإنسان عند فوت ما يحبه ، وليس أمرا اختياريا ؛ فكيف نهى الله تعالى عنه ؟ قلنا : إن يراد به النهي عن لوازمه التي يفعلها كثير من الناس مختارين ، فتكون محركة لذلك الألم ومجددة له ومبعدة أمد السلوى ، والأمر بضدها من تكلف الأعمال التي تشغل النفس وتصرفها عن التذكر والتفكر فيما حزنت لأجله احتسابا ورضاء من الله تعالى ، وهذه الأفعال تكون بدنية نفسية ، وتكون نفسية فقط أو بدنية فقط ، وفسروه هنا بقولهم : أي لا تهتم ، ولا تبال بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون في الكفر ; أي في إظهاره بالتحيز إلى أعداء المؤمنين من أهله عندما تسنح لهم الفرصة ، ويجدون قوة يعتصمون بها من التبعة ، فإن الله يكفيك شرهم ، وينصرك عليهم ، وعلى من يتشيعون لهم . النهي عن الحزن
وللناس في المصائب عادات رديئة ، وأعمال سخيفة ضارة ، تدل على ضعف البشر والسخط على القدر ، ومعظم العقلاء والحكماء يذمونه وينهون عنه كما نهى عنه الدين ، وقد قلت في مرثية نظمتها في أيام طلب العلم ، ناهيا ذاما ما اعتيد من شعائر الحزن : [ ص: 321 ]
أطبيعة ذا الحزن ليس يشذ عن ناموسه فرد من الأفراد أم ذاك مما أودعته شرائع الأديان من هدي لنا ورشاد أم ذلك العقل السليم قضى على كل الشعوب بهذه الأصفاد
كلا فليس الأمر ضربة لازب لكنه ضرب من المعتاد فاخلع جلابيب العوائد إن تكن ليست بحكم العقل ذات سداد
وقد بين الله حقيقة حالهم هذه بقوله : ( من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) اختلف القراء والمفسرون في الوقف هنا ، هل يتم عند قوله تعالى : ( قلوبهم ) أم قوله : ( هادوا ) ؟ أما تقدير الكلام على الأول فهو : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، وما بعده جملة مستقلة تقديرها : ومن الذين هادوا ( أي اليهود ) قوم سماعون للكذب . . . إلخ . وأما التقدير على الثاني فهو : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود ، وقوله تعالى : ( سماعون للكذب ) جملة مستأنفة حذف منها المبتدأ ; أي هم سماعون للكذب . . . إلخ . والأول أظهر ، وقد قال بعض المفسرين : إن المراد بالمنافقين هنا منافقو اليهود ; فيكون الكلام هنا في أولئك اليهود عامة ، الذين أظهرو الإسلام نفاقا والذين ظلوا على دينهم ، ويدخل في عموم الأول المنافقون من غير اليهود على قاعدة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، واختلف في قوله : ( سماعون للكذب ) هل هو وصف للفريقين أم لأحدهما ؟ أي بناء على أن قوله : ( سماعون ) . . . إلخ جملة مستأنفة .
واللام في قوله : ( للكذب ) فيها وجهان : ( أحدهما ) : أنها للتقوية ، والمعنى أنهم يسمعون الكذب كثيرا سماع قبول ، أو يقبلونه ، والمراد بالكذب : ما يقوله رؤساؤهم في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحكام الدين التي يتلاعبون فيها بأهوائهم . ( وثانيها ) : أنها للتعليل ، والمعنى أنهم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم والإخبار عنه [ ص: 322 ] لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات ، فهم عيون وجواسيس بين المسلمين يبلغون رؤساءهم وسائر أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه ، لأجل أن يكون ما يفترون عليه من الكذب مقبولا ; لأنه مبني على وقائع ومسائل واقعة يزيدون في رواياتها وينقصون ، ويحرفون منها ما يحرفون ، ومن يكذب عليك وهو لا يعرف من أمرك شيئا لا يستطيع أن يجعل كذبه مرجو القبول كمن يعرف ، بل يظهر اختلاقه لأول وهلة ، ولهذا ترى الذين يفترون الكذب على الإسلام في هذا الزمان يقرءون بعض كتب المسلمين ; ليبنوا أكاذيبهم على مسائل معروفة ، يحرفون الكلم فيها عن مواضعه ، كما سيأتي في وصف هؤلاء ، كالذي افتروه في قصة زيد وزينب ، وفي غيرها من الوقائع والأخبار ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) أي لأجل قوم آخرين من رؤسائهم ، وذوي الكيد فيهم ، أو من أعدائك مطلقا ، لم يأتوك ليسمعوا منك بآذانهم ; إما كبرا وتمردا ، وإما خوفا على أنفسهم ; لأنهم معلنون للعداوة .