وأما قوله : ( ومهيمنا عليه ) أي على جنس الكتاب الإلهي ، فمعناه أنه رقيب عليها وشهيد ، بما بينه من حقيقة حالها في أصل إنزالها ، وما كان من شأن من خوطبوا بها ، من نسيان حظ عظيم منها وإضاعته ، وتحريف كثير مما بقي منها وتأويله ، والإعراض عن الحكم والعمل بها ، فهو يحكم عليها ; لأنه جاء بعدها . روى عن ابن جرير أنه قال : ( ابن عباس ومهيمنا عليه ) يعني أمينا عليه ، يحكم على ما كان قبله من الكتب ، وفي رواية عنه عند الفريابي وسعيد بن منصور والبيهقي ورواة التفسير المأثور قال : مؤتمنا عليه ، وفي رواية أخرى قال : شهيدا على كل كتاب قبله .
لسان العرب : وقال في قوله " ابن الأنباري ومهيمنا عليه " قال : المهيمن ( أي من أسماء الله ) : القائم على خلقه ، وأنشد :
ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر
( قال ) معناه : القائم على الناس بعده ، وقيل : القائم بأمور الخلق .( قال ) وفي المهيمن خمسة أقوال : قال : المهيمن المؤتمن . وقال ابن عباس : المهيمن : الشهيد . وقال غيره : هو الرقيب ، يقال هيمن يهيمن هيمنة : إذا كان رقيبا على الشيء ، وقال الكسائي أبو معشر : ( ومهيمنا عليه ) معناه وقبانا عليه ، وقيل : وقائما على الكتب . اهـ . والظاهر من مجموع الأقوال أن المهيمن على الشيء هو من يقوم بشئونه ، ويكون له حق مراقبته والحكم في أمره بحق ، كما وصف بذلك أبو بكر رضي الله عنه في قيامه بأعباء خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقيام بالأمر يستلزم المراقبة والشهادة عليه .
ومن الغرائب أن بعض المفسرين فهم من هيمنة القرآن على الكتب التي قبله أنه يشهد لها بالحفظ من التحريف والتبديل . واللفظ لا يدل على هذا المعنى ، فإذا كان معنى المهيمن : الشهيد ، فهل يصح أن يتحكموا في شهادته كما يشاءون ؟ أم الواجب عليهم الرجوع إلى ما قاله في شأن هذه الكتب وأهلها ; لأنه هو نص شهادته لها ولهم أو عليها وعليهم ؟ والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وحسبهم أنه قال في هذه السورة نفسها في كل من أهل التوراة والإنجيل أنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، كما قال في سورة النساء قبلها إنهم " أوتوا نصيبا من الكتاب " ، وقال فيهما جميعا إنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " آمنا بالله وما أنزل إلينا ) ( 2 : 136 ) الآية " رواه لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : ( في صحيحه ، وذكر أن سببه أنه كان بعض أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها لبعض المسلمين بالعربية ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 341 ] عن الاستماع إليهم وقبول كلامهم بهذا الحديث . يوضحه ما رواه البخاري أحمد - واللفظ له - من حديث والبزار جابر قال : عمر كتابا من التوراة بالعربية ، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ ، ووجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير ، فقال له رجل من الأنصار : ويحك يا ابن الخطاب ، ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ; فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تكذبوا بحق ، أو تصدقوا بباطل ، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي " وورد في هذا المعنى أحاديث أخرى ضعيفة . والمراد من النهي عن سؤالهم النهي عن سؤال الاهتداء وتلقي ما يروونه بالقبول لأجل العلم بالشرائع الماضية وأخبار الأنبياء ; لزيادة العلم أو لتفصيل بعض ما أجمله القرآن . وسببه ما هو ظاهر من السياق ، وهو أنهم لنسيانهم بعض ما أنزل إليهم ، وتحريفهم لبعضه ، بطلت الثقة بروايتهم ، فالمصدق لها عرضة لتصديق الباطل ، والمكذب لها عرضة لتكذيب الحق ، إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين المحفوظ السالم من التحريف وغيره ، فالاحتياط ألا نصدقهم ولا نكذبهم إلا إذا رووا شيئا يصدقه القرآن أو يكذبه ، فإنا نصدق ما صدقه ، ونكذب ما كذبه ; لأنه مهيمن على تلك الكتب ، وشهيد عليها ، وشهادته حق ; لأنه نزل بالحق ، وحفظه الله من التحريف والتبديل بتوفيق المسلمين لحفظه في الصدور والسطور ، من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ، وسيحفظه كذلك إلى آخر الزمان ( نسخ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( 15 : 9 ) ولا يعارض هذا قوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر ) لأن ذلك ورد في السؤال عن أمر متواتر قطعي ، وهو أن الرسل كانوا رجالا يوحى إليهم .