والعجب من الإمام الجليل : كيف صور استعمال لفظ اليد هنا أحسن تصوير ، ثم خفيت عنه نكتة تثنيته ; فجعلها حجة المفوضة على أهل التأويل ، ونحن معه في إثبات الصفات ، ننعى على المؤولين النفاة ، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم نكتة تثنية اليد من استعمال لفظها المفرد . قال أبي جعفر بن جرير الطبري بعد تفسير غل اليد بالإمساك وحبس العطاء عن الاتساع ما نصه : وإنما وصف - تعالى ذكره - اليد بذلك ، والمعنى العطاء ; لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال ابن جرير الأعشى في مدح رجل :
يداك يدا جود فكف مقيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد ، ومثل ذلك في كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى ، فخاطبهم الله بما يتعارفونه أو يتحاورونه بينهم في كلامهم ، انتهى .ثم لما ذكر قول من قال من أهل الجدل أن يد الله نعمته أو قدرته أو ملكه ، وقول من قال : إن ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح [ ص: 378 ] بني آدم ، رد القول الأول ، ورجح الثاني بتثنية اليد وعدم إفرادها ، وإبطال قول من قال : إن التثنية بمعنى الجمع . يد الله صفة من صفاته
نعم ، إن التثنية بمعنى الجمع ( واليد واليدين ) لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك ؛ وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية ، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم ، وليس في هذا القول المروي عن تأويل ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى ، وما سبب ذهول ابن عباس عن نكتة التثنية إلا توجهه إلى الرد على أهل الجدل في المذهب الذي كانوا قد انتحلوه في تأويل الصفات ، ومتى وجه الإنسان همه إلى شيء يكون له منه حجاب ما عن غيره ، وتقرير الحقيقة لذاتها غير الرد على من يعدون من خصومها ( ابن جرير ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ( 33 : 4 ) ولهذا غلط كثير من أنصار مذهب السلف في مسائل خالفوا فيها المذهب من حيث يريدون تأييده ، وهذه آفة من آفات عصبية المذاهب ، لا تنفك عنها .
( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ; أي إن هذا الذي أنزلناه عليك من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ومن أحوال سلفهم وشئون كتبهم وحقائق تاريخهم هو من أعظم الحجج والآيات على نبوتك ، فكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك ; لأنك لولا النبوة والوحي لما علمت من ذلك شيئا ; لا من ماضيه ; لأنك أمي لم تقرأ الكتب ، وما كل من قرأها يعلم كل ما جئت به عنهم ، ولا من حاضره ; لأنه من خفايا مكرهم وأسرار كيدهم ، ولكنهم لتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب ، والعصبية الجنسية لأنفسهم ، لا يجذبهم ذلك إلى الإيمان ، ولا يقربهم منه إلا قليلا منهم ، ووالله ليزيدن كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك ، وكفرا بما جئت به ، قال قتادة : حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وفي رواية : على أن تركوا القرآن ، وكفروا بمحمد ودينه ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم . فعلم مما شرحناه أن زيادة طغيان الكثيرين منهم وكفرهم جاء على خلاف الظاهر وضد ما يقتضيه الدليل ; فلهذا أكده بالقسم الذي تفيده اللام في قوله : ( وليزيدن ) .