( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) الحرب ضد السلم ، وليس مرادفا للقتال ، بل أعم ، كما حققناه في تفسير آية المحاربة من هذه السورة ، فهو يصدق بالإخلال بالأمن ، والنهب والسلب ، ولو بغير قتل ، ويصدق بتهييج الفتن ، والإغراء بالقتال . خص مجاهد الحرب هنا بحربهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، والحسن : باجتماع السفلة من الأقوام على قتل العرب . وقال في تفسير الجملة : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وفسره السدي الربيع بما كان من مفاسدهم الماضية التي أغرت بها البابليين والروم قبل النصرانية وبعدها ، ثم المسلمين ، كأنه يرى أن إيقادهم لنار الحرب هو تلبسهم بالأعمال التي هي سبب لها ، وإن لم يريدوها بها ، والمراد أن الله تعالى يخذلهم في كل ما يكيدون به لرسوله وللمؤمنين الصادقين ، فإما أن يخيبوا ، ولا يتم لهم ما يسعون إليه من الإغراء والتحريض ، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين ، وكذلك كان ، وصدق الله وعده ، وأعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .
وجعل بعض المفسرين ذلك عاما ، عملا بظاهر اللفظ ، دون السياق والقرينة والأسباب والعلل ، فقال في تفسيره : كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط - ثم قال - وقيل كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم ، انتهى . وما اخترناه أظهر . الزمخشري
ومن المفصل في السيرة النبوية أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وكان منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ، ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ، ويئوي أعداءهم ويساعدهم ; ككعب بن الأشرف .
اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كان سببه الحسد والعصبية ، وتوقع الأحبار والرؤساء إزالة الإسلام لما كان لهم من الامتياز بين العرب في وكل ما كان من مقاومة الحجاز ، من مكانة العلم والمعرفة ; إذ كان المشركون يحترمونهم لكونهم أهل كتاب وعلم ، وإن [ ص: 380 ] لم يدينوا بدينهم ، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ، ليست من طبيعة الدين ولا من روحه ; ولذلك كان ضلع اليهود مع المسلمين في الشام والأندلس لما رأوا عند مسلمي العرب من العدل المزيل لما كان عليه الروم والقوط من الجور عليهم والظلم ، وكذلك كانت عداوة النصارى للمسلمين في الصدر الأول للإسلام سياسية ; ولذلك كانت على أشدها بينهم وبين الروم ( الرومان ) المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز ; كالشام ومصر ، وكان نصارى البلاد أقرب إلى الميل للمسلمين بعد ما وثقوا بعدلهم لما كانوا يقاسون من ظلم الروم على كونهم من أهل دينهم ، وهذا شأن الناس في العداوة والمودة أبدا ؛ يتبعون في ذلك مصالحهم ومنافعهم ، فلا ينبغي أن يجعل ما ذكر وصفا ذاتيا لهم أو لدينهم ، ولينتظر القارئ شهادة الله تعالى للنصارى بكونهم أقرب مودة للمؤمنين بعد آيات قليلة ، فتحتم أن العداوة من السياسة لا من الدين .
( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) أي إنهم لم يكونوا فيما يأتونه ، أو على ما يأتونه من عداوة النبي والمؤمنين ، وإيقاد نيران الحرب والفتن والقتال ، مصلحين للأخلاق والأعمال ، أو لشئون الاجتماع والعمران ، بل كانوا يسعون في الأرض سعي فساد ، أو لأجل الفساد ، بمحاولة منع اجتماع كلمة العرب ، وخروجهم من الأمية إلى العلم ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، وبالكيد للمؤمنين ، وتشكيكهم في الدين ; حسدا لهم ، وحبا في دوام امتيازهم عليهم ، والله لا يحب المفسدين في الأرض ، فلا يصلح عملهم ، ولا ينجح سعيهم ; لأنهم مضادون لحكمته في صلاح الناس وعمران البلاد .
والدليل على صحة هذا أن الله أبطل كل ما كاده أولئك الأقوام للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب والإسلام ، وإن العرب لما اجتمعت كلمتها ، وصلحت حالها بالإسلام أصلحوا بين الناس ، وعمروا الأرض في كل بلاد كان لهم فيها سلطان ، وأما غيرهم فكانوا مفسدين بالظلم ، ومخربين للبلاد . فالإسلام يأمر بالصلاح والإصلاح على أكمل وجه ، وهو ما يحبه الله تعالى ، فلما قام المسلمون به حق القيام ، أيدهم ونصرهم على جميع من ناوأهم من الأقوام ، وكذلك التوراة والإنجيل ما أنزلت إلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح ؛ وإنما كان أهلها مفسدين في ذلك العصر ; لأنهم تركوا هدايتهما ، كما هو شأن جماهير المسلمين في هذا العصر ، تركوا هداية القرآن ، وأعرضوا عما أرشد إليه من الصلاح والإصلاح ، فزال ملكهم ، وسلط الله عليهم غيرهم ، وقس جزاء الآخرة على جزاء الدنيا ، فكل منهما مرتب بحسب حكمة الله تعالى على صلاح النفوس ، والإصلاح في الأعمال ، وبناء على هذه الحقيقة ، قال :