( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) أي ( قل ) لأهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، فيما تبلغهم عن الله تعالى ( لستم على شيء ) يعتد به من أمر الدين ، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين ( حتى تقيموا التوراة والإنجيل ) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص ، والعمل الصالح ، وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجيء من ولد إسماعيل ، الذي عبر عنه المسيح بروح الحق ، وبالبارقليط ( وما أنزل إليكم من ربكم ) على لسانه ، وهو القرآن المجيد ، فإنه هو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين ، على حسب سنته في النشوء والارتقاء بالتدريج .
وقيل : إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم : ما أنزل على سائر أنبيائهم ، كما قيل مثله في آية : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ) وتقدم توجيهه ولم يبعد العهد به فنعيده ، إلا أن ذاك حكاية ماضية ، وهذا بيان للحال الحاضرة ، والحجة عليهم في الزمنين قائمة ; فهم لم يكونوا مقيمين لتلك الكتب قبل هذا الخطاب ، ولا في وقته ، ولا كان في استطاعتهم أن يقيموها في عهده ، كما أنهم لا يستطيعون أن يقيموها الآن ، فهذا تعجيز لهم وتفنيد لدعواهم الاستغناء عن اتباع خاتم النبيين ، باتباعهم لأنبيائهم السابقين ، ولا يتضمن الشهادة بسلامة تلك الكتب من التحريف . ومثله أن تقول الآن لدعاة النصرانية من الأمريكان والألمان والإنكليز : يا أيها الداعون لنا إلى اتباع التوراة والإنجيل ، نحن لا نعتد بكم ، ولا نرى أنكم على إيمان وثقة بدينكم ، وصدق وإخلاص في [ ص: 393 ] دعوتكم ، حتى تقيموا أنتم وأهل ملتكم التوراة والإنجيل اللذين في أيديكم ، فتحبوا أعداءكم ، وتباركوا لاعنيكم ، وتعطوا ما لقيصر لقيصر ، وتخضعوا لكل سلطة ; لأنها من الله ، وإذا اعتدى عليكم أحد فلا تعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، بل أديروا له الخد الأيسر إذا ضربكم على الخد الأيمن ، واتركوا التنافس في إعداد آلات الفتك الجهنمية ; ليكون للناس السلام في الأرض ، واخرجوا من هذه الأموال الكثيرة والثروة الواسعة ; لأن الغني لا يدخل ملكوت السماوات حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ولا تهتموا برزق الغد . . . إلخ . ونحن نراكم على نقيض كل ما جاء في هذه الكتب ; فأنتم لا تخضعون لكل حاكم ، بل ميزتم أنفسكم ، واستعليتم على الشرائع والحكام من غيركم ، وإذا اعتدي على أحد منكم في بقعة من بقاع الأرض تجردون سيوف دولتكم ، وتصوبون مدافعها على بلاد المعتدي ودولته ، لا عليه وحده ; حتى تنتقموا لأنفسكم بأضعاف ما اعتدى به عليكم ، ولا هم لأممكم ودولكم إلا امتلاك ثروة العالم وزينته ونعيمه ، وتسخير غيركم من الأمم لخدمتكم بالقوة القاهرة ، والاستعداد لسحق من ينافسكم في مجد هذا العالم الفاني ; لعدم اهتمامكم بمجد الملكوت الباقي . فنحن لا نصدق بأنكم تدينون الله بهذه الكتب التي تدعوننا إليها ، حتى تقيموها على وجهها ، فهل يعد دعاة النصرانية مثل هذا الخطاب لهم اعترافا منا بسلامة كتبهم من التحريف والزيادة والنقصان ؟ أم يفهمون أنه حجة مبنية على التسليم الجدلي لأجل الإلزام ؟ نعم ، يفهمون هذا ، ولكنهم يقولون لعوام المسلمين : إن هذه الآية شهادة للتوراة والإنجيل بالسلامة من التحريف !