لا شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح :
ثم شرع ابن القيم في بيان كون جميع الموافق للعدل والعقل فقال : أحكام الشريعة موافقة للقياس الصحيح
( الفصل الثاني ) في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس ، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع . وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام [ ص: 149 ] كثير من الفقهاء من قولهم : هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم ، وربما كان مجمعا عليه كقولهم : طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة خلاف القياس ، وتطهير النجاسة على خلاف القياس ، والوضوء من لحوم الإبل والفطر بالحجامة والسلم والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وصحة صوم الآكل الناسي والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس ، فهل ذلك صواب أم لا ؟ فقال : ليس في الشريعة ما يخالف القياس . وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه وما فتح الله سبحانه لي بيمن إرشاده وبركة تعليمه وحسن بيانه وتفهيمه .
" إن أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد . والصحيح هو الذي وردت به الشريعة ، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فالأول والثاني قياس الطرد ، وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم . فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط ، وكذلك القياس بإلغاء الفارق ، وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع ، فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه ، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته بغيره ، ولكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر ، وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد . فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه . ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر ، وحيث علمنا أن النص بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد ، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم ، فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ، ولكن يخالف القياس الفاسد وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال " انتهى المراد منه . قياس العكس
( أقول ) : ثم إنه بعد هذا بين خطأ من قال : إن تلك المسائل جاءت على خلاف القياس بيانا كافيا شافيا في عدة فصول ظهر به بطلان كثير من كلام فقهاء القياس وأصولهم وقواعدهم ، وتضمن ذلك فوائد نفيسة ، منها انعقاد العقود بأي لفظ عرف به المتعاقدان مقصودهما ، وأن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا ، لا النكاح ولا غيره وأن الكناية مع القرينة كالصريح ، ومنها بيان أنواع المعاملات المالية ، وبطلان كثير من الشروط التي اشترطها فقهاء القياس فيها ، ومنه يعلم يسر الشريعة وسعتها وموافقتها للعدل والعقل . [ ص: 150 ] ثم أورد بعد هذا ما استشكله نفاة الحكمة والتعليل والقياس من تفريق الشريعة بين المتماثلين وجمعها بين المختلفين في عدة مسائل كثيرا ما يذكرونها ، كفرض الغسل من المني الطاهر دون البول النجس وما في حكمه ، وكذا إبطال الصيام بالاستمناء ، ونضح الثوب من بول الغلام وغسله من بول الجارية ، وقصر الصلاة الرباعية دون غيرها ، وإيجاب إعادة الصيام على الحائض دون الصلاة ، وتحريم النظر إلى الحرة ولو عجوزا شوهاء دون الأمة ولو شابة حسناء ، وقطع يد سارق ربع دينار دون مغتصب ألف دينار مع جعل دية اليد خمسمائة دينار إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة في العبادات والمعاملات المالية والزوجية وفي العقوبات ، ولعله استوفى كل ما بلغه من المسائل التي زعم بعض الناس أنها على خلاف القياس والعقل .
ثم أجاب عن ذلك كله بالإسهاب الذي لا يكاد يوجد مثله في غير هذا الكتاب . وفي جوابه أو أجوبته هذه من حكم الشريعة وأسرارها وبيان موافقتها للعقل ومصالح البشر ومن خطأ غلاة القياسيين ما لا يستغني عنه أحد من طلاب علم الشرع والتفقه في الدين .
نذكر من تلك المسائل مسألة واحدة على سبيل النموذج ، وهي الجواب عن قول منكري القياس : إن الشارع حرم بيع مد حنطة بمد وحفنة ، وجوز بيعه بقفيز من شعير ، فهذا تفريق بين المتماثلين مخالف للقياس والعقل عندهم . وقد أطال في رد هذا بما بين به حكمة تحريم الربا في النقدين والبر والشعير والتمر والملح التي ورد بها الحديث . فنلخص ذلك بجمل وجيزة .