لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار ، وهم مشركو العرب ، وقيل : اليهود والنصارى ، وقيل : المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم .
وقوله : يردوكم على أعقابكم أي : يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر فتنقلبوا خاسرين أي : ترجعوا مغبونين . وقوله : بل الله مولاكم إضراب عن مفهوم الجملة الأولى ; أي : إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره ، وقرئ بل الله بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله .
قوله : " سنلقي " قرأ السختياني بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالنون . وقرأ ابن عامر والكسائي ( الرعب ) بضم العين .
وقرأ الباقون بالسكون وهما لغتان ، يقال : رعبته رعبا ورعبا فهو مرعوب ، ويجوز أن يكون مصدرا ، والرعب بالضم الاسم ، وأصله الملء ، يقال سيل راعب ; أي : يملأ الوادي ، ورعبت الحوض ملأته ، فالمعنى : سنملأ قلوب الكافرين رعبا ; أي : خوفا وفزعا ، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ، ومجازا في غيرها كهذه الآية ، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين ، وقالوا : بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم . فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به بما أشركوا بالله متعلق بقوله : سنلقي وما مصدرية ; أي : بسبب إشراكهم ما لم ينزل به سلطانا أي : ما لم ينزل الله بجعله شريكا له حجة وبيانا وبرهانا ، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد ; أي : لا حجة ولا إنزال ، والمعنى : أن الإشراك [ ص: 249 ] بالله لم يثبت في شيء من الملل . والمثوى : المكان الذي يقام فيه ، يقال : ثوى يثوي ثواء .
قوله : ولقد صدقكم الله وعده نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده ، فلما اشتغلوا بالغنيمة وترك الرماة مركزهم طلبا للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة . والحس : الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد .
يقال جراد محسوس : إذا قتله البر ، وسنة حسوس ; أي : جدبة تأكل كل شيء . قيل : وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم : تقتلونهم وتستأصلونهم ، قال الشاعر :
حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقال جرير :تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في الأجم الحصيد
وقد جوز الأخفش مثله في قوله تعالى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم [ التوبة : 118 ] ، وقيل : حتى بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب لها ، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم ، وقال بعضهم : نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومعنى قوله : من بعد ما أراكم ما تحبون ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد كما تقدم منكم من يريد الدنيا يعني الغنيمة ومنكم من يريد الآخرة أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) أي : ردكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم ولقد عفا عنكم لما علم من ندمكم فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، والخطاب لجميع المنهزمين وقيل : للرماة فقط .
قوله : إذ تصعدون : متعلق بقوله : صرفكم أو بقوله : ولقد عفا عنكم أو بقوله : ( ليبتليكم ) وقرأه الجمهور بضم التاء وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين . وقرأ ابن محيصن وقنبل ( تصعدون ) بالتحتية .
قال أبو حاتم : أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل ، فالإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية ، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي ، فيصح المعنى على القراءتين . وقال القتيبي : أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه ، ومنه قول الشاعر :
ألا أيهذا السائلي أين أصعدت فإن لها من بطن يثرب موعدا
وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد . ومعنى ( تلوون ) تعرجون وتقيمون : أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا ، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته ، على أحد : أي على أحد ممن معكم ، وقيل : على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقرأ الحسن تلون بواو واحدة ، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء وهي لغة . قوله : والرسول يدعوكم في أخراكم أي : في الطائفة المتأخرة منكم ، يقال : جاء فلان في آخر الناس ، وآخرة الناس ، وأخرى الناس ، وأخريات الناس . وكان دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أي عباد الله ارجعوا ) .
قوله : فأثابكم : عطف على صرفكم ; أي : فجازاكم الله غما حين صرفكم عنه بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعصيانكم ، أو غما موصولا بغم بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين ، والغم في الأصل التغطية ، غميت الشيء غطيته ، ويوم غم ، وليلة غمة : إذا كانا مظلمين : ومنه غم الهلال ، وقيل : الغم الأول الهزيمة ، والثاني إشراف أبي هريرة وخالد بن الوليد عليهم في الجبل .
قوله : لكيلا تحزنوا : اللام متعلقة بقوله : فأثابكم أي : هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ولا ما أصابكم من الهزيمة ، تمرينا لكم على المصائب وتدريبا لاحتمال الشدائد . وقال المفضل : معنى لكيلا تحزنوا لكي تحزنوا ، ولا زائدة كقوله تعالى ما منعك ألا تسجد [ الأعراف : 12 ] أي : أن تسجد ، وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ الحديد : 29 ] أي ليعلم .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا قال : لا تنصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في دينكم . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي يقول : إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردكم كفارا .
وأخرج ابن جرير عنه في قوله : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب نحو ما قدمناه في سبب نزول الآية . وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله : ولقد صدقكم الله وعده قال : كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم ، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة .
وقصة أحد مستوفاة في السير والتواريخ فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : إذ تحسونهم قال : الحس القتل . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه . قال : الفشل الجبن .
وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في [ ص: 250 ] قوله : من بعد ما أراكم ما تحبون قال : الغنائم وهزيمة القوم . وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله : ولقد عفا عنكم قال : يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم .
وأخرج أيضا عن ابن جريج نحوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس إذ تصعدون قال : أصعدوا في أحد فرارا والرسول يدعوهم في أخراهم : ( إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا ) .
وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف فأثابكم غما بغم قال : الغم الأول بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل قتل محمد ، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : غما بغم ، قال : فرة بعد الفرة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال : الغم الأول الجراح والقتل ، والغم الآخر حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل . وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله .


