قد تقدم بيان معنى العبادة . وشيئا إما مفعول به ; أي : لا تشركوا به شيئا من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان ، وإما مصدر ; أي : لا تشركوا به شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر والواضح والخفي . وقوله : إحسانا مصدر لفعل محذوف ; أي : أحسنوا بالوالدين إحسانا .
وقرأ بالرفع ، وقد دل ذكر ابن أبي عبلة على عظم حقهما ، ومثله الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به أن اشكر لي ولوالديك [ لقمان : 14 ] فأمر سبحانه بأن يشكرا معه . قوله : وبذي القربى أي صاحب القرابة ، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيدا .
واليتامى والمساكين قد تقدم تفسيرهم ، والمعنى : وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية والجار ذي القربى أي : القريب جواره ، وقيل : هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب والجار الجنب المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى ، والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة ، وفي ذلك دليل على إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة ، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها . وفيه رد على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل ، أو مختص بالقريب دون البعيد ، وقيل : إن المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب ، وقيل : هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له . تعميم الجيران بالإحسان
وقرأ الأعمش والمفضل ( والجار الجنب ) بفتح الجيم وسكون النون ; أي : ذي الجنب ، وهو الناحية ، وأنشد الأخفش :
الناس جنب والأمير جنب
وقيل : المراد بالجار ذي القربى : المسلم ، وبالجار الجنب : اليهودي والنصراني . وقد اختلف أهل العلم في ، فروي عن المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين دارا من كل ناحية ، وروي عن نحوه ، وقيل : من سمع إقامة الصلاة ، وقيل : إذا جمعتهما محلة ، وقيل : من سمع النداء . الزهريوالأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع ، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جارا إلى حد كذا من الدور ، أو من مسافة الأرض ، كان العمل عليه متعينا ، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا . ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا ، ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك ، بل المراد بالجار في اللغة : المجاور ، ويطلق على معان . [ ص: 298 ] قال في القاموس : والجار : المجاور ، والذي أجرته من أن يظلم ، والمجير ، والمستجير ، والشريك في التجارة ، وزوج المرأة وهي جارته ، وفرج المرأة ، وما قرب من المنازل ، والاست كالجارة ، والقاسم والحليف ، والناصر انتهى . قال القرطبي في تفسيره : وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني نزلت محلة قوم ، وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا إن أربعين دارا جار ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه انتهى .
ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره ، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة ، وهو وإن كان إماما في علم الرواية ، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور ، ولاسيما وهو يذكر الواهيات كثيرا كما يفعل في تذكرته ، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة ، قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون إلى قوله : ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا . وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها ، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة .
قوله : والصاحب بالجنب قيل : هو الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك . وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود : هو الزوجة . وقال وابن أبي ليلى : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك . ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها . وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب ; أي : بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك . ابن جريج
قوله : وابن السبيل قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا ، والسبيل الطريق ، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه ، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه ، وقيل : هو المنقطع به ، وقيل : هو الضيف .
قوله : وما ملكت أيمانكم أي : وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحسانا ، وهم العبيد والإماء ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس . والمختال ذو الخيلاء وهو الكبر والتيه ; أي : لا يحب من كان متكبرا تائها على الناس مفتخرا عليهم . والفخر : المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب ، وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية . وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن في قوله : ابن عباس والجار ذي القربى يعني : الذي بينك وبينه قرابة والجار الجنب يعني : الذي ليس بينك وبينه قرابة .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم نوف البكالي قال : الجار ذي القربى : المسلم ، والجار الجنب : اليهودي والنصراني . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن في قوله : ابن عباس والصاحب بالجنب قال : الرفيق في السفر . وأخرج عن ابن جرير سعيد بن جبير ومجاهد مثله . وأخرج في نوادر الأصول الحكيم الترمذي وابن المنذر عن وابن أبي حاتم زيد بن أسلم والصاحب بالجنب قال : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم علي قال : هو المرأة . وأخرج هؤلاء عن والطبراني مثله . ابن مسعود
وأخرج عن ابن جرير مثله . وأخرج ابن عباس ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وما ملكت أيمانكم قال : مما خولك الله فأحسن صحبته : كل هذا أوصى الله به . وأخرج عن ابن أبي حاتم مقاتل نحوه وقد ورد مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ، وفي الإحسان إلى اليتامى ، وفي الإحسان إلى الجار ، وفي القيام بما يحتاجه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا ، وهكذا ورد في ذم الكبر والاختيال والفخر ما هو معروف . بر الوالدين وفي صلة القرابة