الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا
قوله : الذين يبخلون هم في محل نصب بدلا من قوله : من كان مختالا أو على الذم ، أو في محل رفع على الابتداء والخبر مقدم ; أي : لهم كذا وكذا من العذاب ، ويجوز أن يكون مرفوعا بدلا من الضمير المستتر في قوله : مختالا فخورا ويجوز أن يكون منصوبا على تقدير أعني ، أو مرفوعا على الخبر والمبتدأ مقدر ; أي : هم الذين يبخلون ، والجملة في محل نصب على البدل .
هو الامتناع من أداء ما أوجب الله ، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله ، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها ، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله والبخل المذموم في الشرع ويأمرون الناس بالبخل كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجا ومضاضة ، فلا كثر في عباده من أمثالكم ، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه ، فما بالكم بخلتم بأموال [ ص: 299 ] غيركم ؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر ، وهل هذا إلا غاية اللوم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الاختيار . وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل .
وقد قيل : إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة ، وقيل : المراد بها المنافقون ، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولا وأعم فائدة . قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عطف على قوله : الذين يبخلون ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به وبكتم ما آتاهم الله من فضله ، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم ، ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه ، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله وباليوم الآخر .
قوله : ومن يكن الشيطان له قرينا في الكلام إضمار ، والتقدير : ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا والقرين المقارن ، وهو الصاحب والخليل . والمعنى : من قبل الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها ، أو فهو قرينه في النار فساء الشيطان قرينا .
وماذا عليهم أي : على هذه الطوائف لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء لوجهه وامتثالا لأمره ; أي : وماذا يكون عليهم من ضرر لو فعلوا ذلك . قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة المثقال مفعال من الثقل كالمقدار من القدر ، وهو منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف ; أي : لا يظلم شيئا مثقال ذرة . والذرة واحدة الذر . وهي النمل الصغار ، وقيل : رأس النملة ، وقيل : الذرة الخردلة ، وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة .
والأول هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه . والمراد من الكلام أن الله لا يظلم كثيرا ولا قليلا ; أي : لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرة فضلا عما فوقها .
قوله : وإن تك حسنة يضاعفها قرأ أهل الحجاز ( حسنة ) بالرفع . وقرأ من عداهم بالنصب ، والمعنى على القراءة الأولى : إن توجد حسنة ، على أن كان هي التامة لا الناقصة ، وعلى القراءة الثانية : إن تك فعلته حسنة يضاعفها ، وقيل : إن التقدير : إن تك مثقال الذرة حسنة ، وأنث ضمير المثقال لكونه مضافا إلى المؤنث والأول أولى .
وقرأ الحسن ( نضاعفها ) بالنون ، وقرأ الباقون بالياء ، وهي الأرجح لقوله : ويؤت من لدنه أجرا عظيما وقد تقدم الكلام في المضاعفة ، والمراد مضاعفة ثواب الحسنة . قوله : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد كيف منصوبة بفعل مضمر كما هو رأي ، أو محلها رفع على الابتداء كما هو رأي غيره ، والإشارة بقوله : هؤلاء إلى الكفار ، وقيل : إلى كفار سيبويه قريش خاصة .
والمعنى : فكيف يكون إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع . حال هؤلاء الكفار يوم القيامة يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض قرأ نافع وابن عامر ( تسوى ) بفتح التاء وتشديد السين ، وقرأ حمزة بفتح التاء وتخفيف السين ، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين ، والمعنى على القراءة الأولى والثانية : أن الأرض هي التي تسوى بهم ; أي : أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها ، وقيل الباء في قوله : بهم بمعنى على ; أي : تسوى عليهم الأرض . والكسائي
وعلى القراءة الثالثة الفعل مبني للمفعول ; أي : لو سوى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا . قوله : ولا يكتمون الله حديثا عطف على يود أي : يومئذ يود الذين كفروا ويومئذ لا يكتمون الله حديثا ولا يقدرون على ذلك .
قال : قال بعضهم : الزجاج ولا يكتمون الله حديثا مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو معطوف . والمعنى : يودون أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا ; لأنه ظهر كذبهم .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : كان ابن عباس كردم بن يزيد حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ؟ فأنزل الله فيهم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل إلى قوله : وكان الله بهم عليما . وقد أخرج عنه أنها نزلت في ابن أبي حاتم اليهود . وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد . وأخرجه عن ابن جرير . وأخرجه سعيد بن جبير عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير ابن عباس إن الله لا يظلم مثقال ذرة قال : رأس نملة حمراء . وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : سعيد بن جبير وإن تك حسنة وزن ذرة زادت على سيئاته يضاعفها فأما المشرك فيخفف به عنه العذاب ولا يخرج من النار أبدا .
وأخرج وغيره البخاري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأ علي . قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ابن مسعود فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : حسبك الآن . فإذا عيناه تذرفان . وأخرجه عن الحاكم وصححه من حديث . وأخرج عمرو بن حريث ابن جرير من طريق وابن أبي حاتم من العوفي في قوله : ابن عباس لو تسوى بهم الأرض يعني : أن تسوى الأرض بالجبال والأرض عليهم . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة في الآية يقول : ودوا لو [ ص: 300 ] انخرقت بهم الأرض فساخوا فيها . وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ولا يكتمون الله حديثا قال : بجوارحهم .