فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
قوله : ( وكتبنا ) معطوف على ( أنزلنا التوراة ) ومعناها فرضنا ، بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه علىبني إسرائيل من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح ، وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا : إنه يقتل المسلم بالذمي ؛ لأنه نفس ، وقال وجماعة من أهل العلم : إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا . الشافعي
وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى [ البقرة : 178 ] ما فيه كفاية ، وقد اختلف أهل العلم في فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق ، وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه ، قال شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا ؟ ابن كثير في تفسيره : وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة . انتهى
وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى ، وفي هذه الآية توبيخ لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ، ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه ، وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير ، قوله : ( والعين بالعين ) قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضا في الكل إلا في الجروح فبالرفع ، وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفا على المحل ؛ لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء .
وقال الزجاج : يكون عطفا على المضمر في النفس ؛ لأن التقدير : إن [ ص: 376 ] النفس هي مأخوذة بالنفس ، فالأسماء معطوفة على هي ، قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين ، والظاهر من النظم القرآني أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيها مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها ، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها ، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها ، وكذلك السن ، فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين ، أو ببعض الأنف ، أو ببعض الأذن ، أو ببعض السن ، فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص ، وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته ، وكلامهم مدون في كتب الفروع .
والظاهر من قوله : ( والسن بالسن ) أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات ، وأنه يؤخذ بعضها ببعض ، ولا فضل لبعض على بعض ، وإليه ذهب أكثر أهل العلم ، كما قال ابن المنذر ، وخالف في ذلك رضي الله عنه ومن تبعه ، وكلامهم مدون في مواطنه ، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه ، فإن كانت ذاهبة فما يليها . عمر بن الخطاب
قوله : ( والجروح قصاص ) أي : ذوات قصاص ، وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف ، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا ، وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة ، وليس هذا موضع بيان كلامهم ، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر ، قوله : فمن تصدق به فهو كفارة له أي : ، بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه . من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص
وقيل إن المعنى : فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة ؛ لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه ، والأول أرجح ؛ لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور ، قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية .
قوله : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة ؛ أي : جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم ؛ أي : آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل ، يقال قفيته مثل عقبته إذا أتبعته ، ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء ، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف ، وهو على آثارهم ؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه ، وانتصاب ( مصدقا ) على الحال من عيسى ( وآتيناه الإنجيل ) عطف على ( قفينا ) ومحل الجملة أعني ( فيه هدى ) النصب على الحال من الإنجيل ( ونور ) عطف على ( هدى ) .
وقوله : ( ومصدقا ) معطوف على محل ( فيه هدى ) أي : إن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملا على الهدى والنور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وقيل : إن ( مصدقا ) معطوف على ( مصدقا ) الأول فيكون حالا من عيسى مؤكدا للحال الأول ومقررا له ، والأول أولى ؛ لأن التأسيس خير من التأكيد .
قوله : وهدى وموعظة للمتقين عطف على " مصدقا " داخل تحت حكمه منضما إليه ؛ أي : مصدقا وهاديا وواعظا للمتقين ، قوله : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه هذا أمر لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه ، فإنه قبل البعثة المحمدية حق ، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة .
وقرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل من ( يحكم ) على أن اللام لام كي ، وقرأ الباقون بالجزم على أن اللام للأمر فعلى القراءة الأولى تكون اللام متعلقة بقوله : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، وعلى القراءة الثانية هو كلام مستأنف ، قال مكي : والاختيار الجزم ؛ لأن الجماعة عليه ، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله لأهل الإنجيل .
وقال النحاس : والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان ؛ لأن الله سبحانه لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه ، قوله : وأنزلنا إليك الكتاب خطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والكتاب القرآن والتعريف للعهد ، و ( بالحق ) متعلق بمحذوف وقع حالا ؛ أي : متلبسا بالحق ، وقيل : هو حال من فاعل أنزلنا ، وقيل : من ضمير النبي صلى الله عليه وآله وسلم و ( مصدقا لما بين يديه ) حال من الكتاب ، والتعريف في الكتاب أعني قوله : مصدقا لما بين يديه من الكتاب للجنس ؛ أي : أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبسا بالحق وحال كونه مصدقا لما بين يديه من كتب الله المنزلة لكونه مشتملا على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر ، كما اشتمل عليه قوله : ( ومهيمنا عليه ) عطف على ( مصدقا ) والضمير في ( عليه ) عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه ، والمهيمن الرقيب ، وقيل : الغالب المرتفع ، وقيل : الشاهد ، وقيل : الحافظ ، وقيل : المؤتمن .
قال : أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء ، كما قيل في أرقت الماء : هرقت ، وبه قال المبرد الزجاج وأبو علي الفارسي ، وقال الجوهري : هو من أمن غيره من الخوف ، وأصله أأمن فهو مؤأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة لاجتماعهما ، فصار مؤيمن ثم صيرت الأولى هاء ، كما قالوا هراق الماء وأراقه ، يقال : هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظا ، فهو له مهيمن ، كذا عن أبي عبيد .
وقرأ مجاهد وابن محيصن ( مهيمنا ) عليه بفتح الميم ، أي هيمن عليه الله سبحانه ، والمعنى على قراءة الجمهور : أن ومقررا لما فيها مما لم ينسخ ، وناسخا لما خالفه منها ، ورقيبا عليها ، وحافظا لما فيها من أصول الشرائع ، وغالبا لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ ، ومؤتمنا عليها لكونه مشتملا على ما هو معمول به منها وما هو متروك . القرآن صار شاهدا بصحة الكتب المنزلة
قوله : فاحكم بينهم بما أنزل الله أي : بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه ولا تتبع أهواءهم أي : أهواء أهل الملل السابقة .
وقوله : [ ص: 377 ] عما جاءك من الحق متعلق بلا تتبع على تضمينه معنى لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم ، وقيل متعلق بمحذوف ؛ أي : لا تتبع أهواءهم عادلا أو منحرفا عن الحق .
وفيه النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه ، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم ، وإن كان باطلا منسوخا أو محرفا عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء ، كما وقع في الرجم ونحوه مما حرفوه من كتب الله .
قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الشرعة والشريعة في الأصل : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين ، والمنهاج : الطريقة الواضحة البينة ، وقال الشريعة : ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ، ومعنى الآية : أنه جعل التوراة لأهلها ، والإنجيل لأهله ، والقرآن لأهله ، وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن ، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به أبو العباس محمد بن يزيد المبرد محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قوله : ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد ( ولكن ليبلوكم ) أي : ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد ، بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع ، فيكون ( ليبلوكم ) متعلقا بمحفوظ دل عليه سياق الكلام وهو ما ذكرنا ، ومعنى ( في ما آتاكم ) فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص .
قوله : ( فاستبقوا الخيرات ) أي : إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمرتم بفعله وترك ما أمرتم بتركه ، والاستباق : المسارعة ( إلى الله مرجعكم جميعا ) لا إلى غيره ، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها .
قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عطف على الكتاب ؛ أي : أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه ، وقد استدل بهذا على نسخ التخير المتقدم في قوله : ( أو أعرض عنهم ) وقد تقدم تفسير ( ولا تتبع أهواءهم ) .
قوله : واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك أي : يضلوك عنه ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم أي : إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك فذلك لما أراده الله من تعذيبهم ببعض ذنوبهم ، وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به .
وإن كثيرا من الناس لفاسقون متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف .
قوله : أفحكم الجاهلية يبغون الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره ، والمعنى : أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية ، والاستفهام في ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون للإنكار أيضا ؛ أي : لا أحسن من حكم الله عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والأهواء .
وقد أخرج ابن المنذر ، عن ( كتبنا عليهم فيها ) في التوراة . وأخرج ابن عباس عبد الرزاق وابن المنذر عنه ، قال : كتب عليهم هذا في التوراة ، وكانوا يقتلون الحر بالعبد فيقولون كتب علينا أن النفس بالنفس . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه ، عن في قوله : ابن عمر فمن تصدق به فهو كفارة له قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به . وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ( فهو كفارة له ) قال : للمجروح . جابر بن عبد الله
وأخرج أحمد والترمذي ، عن وابن ماجه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أبي الدرداء مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة وأخرج ما من سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي ، عن ( ومهيمنا عليه ) قال : مؤتمنا عليه . ابن عباس
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه قال : المهيمن الأمين ، والقرآن أمين على كل كتاب قبله . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه في قوله : ( شرعة ومنهاجا ) قال : سبيلا وسنة . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل ، عن قال : قال ابن عباس كعب بن أسد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا أن نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك ، وأنزل الله فيهم : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إلى قوله : ( لقوم يوقنون ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : ( أفحكم الجاهلية يبغون ) قال : يهود . وأخرج ، عن عبد بن حميد قتادة قال : هذا في قتيل اليهود