قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة ، وقيل : المراد بهم المنافقون ، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه .
وقد كان يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك ، والأولى أن يكون خطابا لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهرا [ ص: 378 ] وباطنا أو ظاهرا فقط ، فيدخل المسلم والمنافق ، ويؤيد هذا قوله : فترى الذين في قلوبهم مرض والاعتبار بعموم اللفظ ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد ، والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادفة والمعاشرة والمناصرة ، وقوله : بعضهم أولياء بعض تعليل للنهي ، والمعنى : أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم ، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم ، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى ، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وقالت [ البقرة : 113 ] وقيل : المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعداوة ما جاء به ، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين .
ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم ، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم ، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال : ومن يتولهم منكم فإنه منهم أي : فإنه من جملتهم وفي عدادهم ، وهو وعيد شديد ؛ فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية ، وقوله : إن الله لا يهدي القوم الظالمين تعليل للجملة التي قبلها ؛ أي : أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين .
قوله : فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم الفاء للسببية ، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لكل من يصلح له ؛ أي : ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ، وقوله : ( يسارعون ) في محل نصب إما على أنه المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبية أو على أنه حال إذا كانت بصرية ، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم ؛ للمبالغة في بيان رغوبهم في ذلك حتى كأنهم مستقرون فيهم داخلون في عدادهم .
وقد قرئ ( فسيرى ) بالتحتية ، واختلف في فاعله ما هو ؟ فقيل : هو الله عز وجل ، وقيل : هو كل من تصح منه الرؤيا ، وقيل : هو الموصول ومفعوله ( يسارعون فيهم ) على حذف أن المصدرية ؛ أي : فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم ، فلما حذفت ارتفع الفعل كقوله :
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغا
والمرض في القلوب : هو النفاق والشك في الدين ، وقوله : يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة ؛ أي : أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة ، وقيل : إن الجملة حال من ضمير ( يسارعون ) والدائرة : ما تدور من مكاره الدهر ؛ أي : نخشى أن تظفر الكفار بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه ، ومنه قول الشاعر :
يرد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا
أي : دولات الدهر الدائرة من قوم إلى قوم ، وقوله : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح ) رد عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية ، وعسى في كلام الله وعد صادق لا يتخلف .
والفتح : ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكافرين ، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم ، وإجلاء بني النضير ، وقيل : هو فتح بلاد المشركين على المسلمين ، وقيل : فتح مكة ، والمراد بالأمر من عنده سبحانه هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم ، وقيل : هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أسروا في أنفسهم وأمره بقتلهم ، وقيل : هو الجزية التي جعلها الله عليهم ، وقيل : الخصب والسعة للمسلمين فيصبح المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من النفاق الحامل لهم على الموالاة ( نادمين ) على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها .
قوله : ( يقول الذين آمنوا ) قرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بإثبات الواو ، وقرأ الباقون بحذفها ، فعلى القراءة الأولى مع رفع ( يقول ) يكون كلاما مبتدأ مسوقا لبيان ما وقع من هذه الطائفة ، وعلى قراءة النصب يكون عطفا على ( فيصبحوا ) وقيل على ( يأتي ) والأولى أولى ؛ لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة الكافرين لا عند إتيان الفتح ، وقيل هو معطوف على الفتح كقول الشاعر :
للبس عباءة وتقر عيني
وأما على قراءة حذف الواو فالجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، والإشارة بقوله : ( أهؤلاء ) إلى المنافقين ؛ أي : يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم بالمناصرة والمعاضدة في القتال ، أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين ، وهذه الجملة مفسرة للقول ، وجهد الأيمان : أغلظها ، وهو منصوب على المصدر أو على الحال ؛ أي : أقسموا بالله جاهدين .
قوله : ( حبطت أعمالهم ) أي : بطلت ، وهو من تمام قول المؤمنين أو جملة مستأنفة ، والقائل الله سبحانه ، والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه .
قوله : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم ) قرأ أهل المدينة والشام ( يرتدد ) بدالين بفك الإدغام ، وهي لغة تميم ، وقرأ غيرهم بالإدغام .
وهذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن ، وذلك نوع من أنواع الردة ، والمراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم موالاة الكافرين من المسلم كفر رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة ، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن ، ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء من كونهم يحبون الله وهو يحبهم ، ومن كونهم أبو بكر الصديق أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم [ ص: 379 ] والأذلة : جمع ذليل لا ذلول ، والأعزة : جمع عزيز ؛ أي : يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين ، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين ، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسدا وبغضا وكراهة للحق وأهله ، والإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها .
والفضل : اللطف والإحسان ، قوله : ( إنما وليكم الله ) لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحل موالاته بين من هو الولي الذي تجب موالاته ، ومحل الذين يقيمون الصلاة الرفع على أنه صفة للذين آمنوا أو بدل منه أو النصب على المدح ، وقوله : ( وهم راكعون ) جملة حالية من فاعل الفعلين اللذين قبله ، والمراد بالركوع : الخشوع والخضوع ؛ أي : يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون ، وقيل هو حال من فاعل الزكاة .
والمراد بالركوع هو المعنى المذكور ؛ أي : يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم ، وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني : ركوع الصلاة ، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال .
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ثم وعد سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم ، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر ، ووضع حزب الله موضع ضمير الموالين لله ولرسوله وللمؤمنين ، والحزب : الصنف من الناس ، من قولهم حزبه كذا ؛ أي : نابه ، فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب ، وحزب الرجل : أصحابه ، والحزب : الورد ، وفي الحديث : ( فمن فاته حزبه من الليل ) وتحزبوا : اجتمعوا ، والأحزاب : الطوائف ، وقد وقع ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوهم ، فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية ، حتى صاروا لعنهم الله أذل الطوائف الكفرية وأقلهم شوكة ، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاءوا ، ويمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر ، عن قال : " لما حاربت عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم ، ومشى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من خلفهم ، وكان أحد عبادة بن الصامت بني عوف بن الخزرج ، وله من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد الله بن أبي بن سلول ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ، وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة والنصارى أولياء يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود إلى قوله : فإن حزب الله هم الغالبون .
وأخرج ابن مردويه ، عن قال : أسلم ابن عباس عبد الله بن أبي بن سلول ، ثم قال : إن بيني وبين قريظة والنضير حلفا وإني أخاف الدوائر ، فارتد كافرا ، وقال : أتبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله ، فنزلت . وأخرج عبادة بن الصامت ابن مردويه أيضا من طريق ، عن أبيه عن جده نحو ذلك . وأخرج عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ابن أبي شيبة ، عن وابن جرير قال : جاء عبادة فذكر نحو ما تقدم . عطية بن سعد
وأخرج ، عن ابن جرير قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر ، فقال الزهري مالك بن الصيف : غركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال ، أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يدان بقتالنا ، فقال عبادة وذكر نحو ما تقدم عنه وعن عبد الله بن أبي . وأخرج ، عن ابن جرير في هذه الآية ابن عباس ياأيها الذين آمنوا قال : إنها في الذبائح من دخل في دين قوم فهو منهم .
وأخرج ، عن عبد بن حميد حذيفة قال : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر ، وتلا ومن يتولهم منكم فإنه منهم وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن عطية وابن أبي حاتم فترى الذين في قلوبهم مرض كعبد الله بن أبي ( يسارعون فيهم ) في ولايتهم .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في سننه ، عن وابن عساكر قتادة قال : أنزل الله هذه الآية ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل الجواثي من عبد القيس ، وقال الذين ارتدوا : نصلي الصلاة ولا نزكي ، والله لا تغصب أموالنا ، فكلم أبا بكر في ذلك ليتجاوز عنهم ، وقيل له : إنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة ، فقال : والله لا أفرق بين شيء جمعه الله ولو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه ، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة ، قال قتادة : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه إلى آخر الآية .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل ، عن الحسن نحوه . وأخرج ، عن شريح بن عبيد قال : ابن جرير لما أنزل الله ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه الآية ، قال عمر : أنا وقومي يا رسول الله ؟ قال : لا بل هذا وقومه ، يعني أبا موسى الأشعري .
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة في مسنده والحكيم الترمذي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل ، عن عياض الأشعري قال : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري . وأخرج لما نزلت [ ص: 380 ] أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في جمعه لحديث شعبة والبيهقي وابن عساكر ، عن أبي موسى الأشعري قال : تليت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسوف يأتي الله بقوم الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قومك يا أبا موسى أهل اليمن .
وأخرج في الكنى ابن أبي حاتم في الأوسط والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه بسند حسن عن قال : جابر بن عبد الله فسوف يأتي الله بقوم الآية ، فقال : هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب وأخرج سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله : في تاريخه البخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في الآية قال : هم قوم من أهل ابن عباس اليمن ثم من كندة ثم من السكون .
وأخرج عنه قال : هم أهل القادسية . وأخرج ابن أبي شيبة في تاريخه عن البخاري قال : أتيت القاسم بن مخيمرة فرحب بي ، ثم تلا ابن عمر من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم الآية ، ثم ضرب على منكبي وقال : أحلف بالله إنهم لمنكم أهل اليمن ، ثلاثا . وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم قال في قوله : عطية بن سعد إنما وليكم الله ورسوله : إنها نزلت في . عبادة بن الصامت
وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن قال : تصدق ابن عباس علي بخاتم وهو راكع ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسائل : من أعطاك هذا الخاتم ؟ قال : ذاك الراكع ، فأنزل الله فيه إنما وليكم الله ورسوله . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قال : نزلت في ابن عباس . وأخرج علي بن أبي طالب أبو الشيخ وابن مردويه ، عن وابن عساكر نحوه . وأخرج علي بن أبي طالب ابن مردويه ، عن عمار نحوه أيضا . وأخرج في الأوسط بسند فيه مجاهيل عنه نحوه . الطبراني