قد تقدم معنى كتب قريبا ، وحضور الموت حضور أسبابه وظهور علاماته ، ومنه قول عنترة :
وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني
وقال جرير :أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاة
وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية ، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيرا .
واختلف في جواب هذا الشرط ما هو ؟ فروي عن الأخفش وجهان : أحدهما أن التقدير : إن ترك خيرا فالوصية ، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان
واختلف أهل العلم في مقدار الخير ، فقيل : ما زاد على سبعمائة دينار ، وقيل : ألف دينار ، وقيل : ما زاد على خمسمائة دينار .
والوصية في الأصل : عبارة عن الأمر بالشيء والعهد به في الحياة وبعد الموت ، وهي هنا : عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت .
وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها .
وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيرا أو غنيا ، وقالت طائفة : إنها واجبة .
ولم يبين الله سبحانه هاهنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين ، فقيل : الخمس ، وقيل : الربع ، وقيل : الثلث .
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة ، قالوا : وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص .
والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرق ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم .
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة .
وقال كثير من أهل العلم : إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم : لا وصية لوارث وهو حديث صححه بعض أهل الحديث ، وروي من غير وجه .
وقال بعض أهل العلم : إنه نسخ الوجوب ونفى الندب ، وروي عن الشعبي والنخعي ومالك .
قوله : بالمعروف أي العدل لا وكس فيه ولا شطط .
وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه .
وقوله : حقا مصدر معناه الثبوت والوجوب .
قوله : فمن بدله هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية ، وكذلك الضمير في قوله : سمعه والتبديل : التغيير ، والضمير في قوله : فإنما إثمه راجع إلى التبديل المفهوم من قوله : بدله وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة ، وأنه يبوء بالإثم ، وليس على الموصي من ذلك شيء ، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به .
قال القرطبي : ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث .
قاله أبو عمر انتهى .
والجنف : المجاوزة ، من جنف يجنف : إذا جاوز ، قاله النحاس ، وقيل : الجنف الميل ، ومنه قول الأعشى :
تجانف عن حجر اليمامة يا فتى وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال لبيد :
[ ص: 116 ]
إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : إن ترك خيرا قال : مالا .
وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا .
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن عروة ، أن علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال : ألا أوصي ؟ قال : لا ؟ إنما قال الله : إن ترك خيرا وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك .
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عائشة ، أن رجلا قال لها : أريد أن أوصي . قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك ؟ قال : أربعة ، قالت : قال الله : إن ترك خيرا وإن هذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال : إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الزهري قال : جعل الله الوصية حقا مما قل منه ومما كثر .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديثا وفيه : انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون ، فأوص لهم من مالك بالمعروف .
وأخرجا أيضا عن طاوس قال : من أوصى لقوم وسماهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على قرابته .
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود في الناسخ وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن محمد بن بشير عن ابن عباس قال : نسخت هذه الآية .
وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم أن هذه الآية نسخها قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية .
وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم أنها منسوخة بآية الميراث .
وأخرج عنه أبو داود في سننه والبيهقي مثله .
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : في الآية نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر أنه قال : هذه الآية نسختها آية الميراث .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : فمن بدله الآية ، قال : وقد وقع أجر الموصي على الله وبرئ من إثمه ، وقال في قوله : جنفا يعني إثما فأصلح بينهم قال : إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه لكنه فسر الجنف بالميل .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : جنفا أو إثما قال : خطأ أو عمدا .
وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في سننه عنه قال : الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر .


