وأما  ما يتعلق بترتيبه   
فأما الآيات في كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك ، ولا خلاف فيه ، ولهذا لا يجوز تعكيسها .  
قال   مكي  وغيره : ترتيب الآيات في السور هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة .  
وقال  القاضي أبو بكر     : ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم ، فقد كان  جبريل   يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا .  
 [ ص: 354 ] وأسند  البيهقي  في كتاب " المدخل " و " الدلائل " عن   زيد بن ثابت  قال : كنا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن إذ قال :  طوبى للشام فقيل له : ولم ؟ قال : لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه  زاد في " الدلائل " : نؤلف القرآن في الرقاع .  
قال : وهذا يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - .  
وأخرجه  الحاكم  في " المستدرك " وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وقال : فيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جمع بعضه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جمع بحضرة   أبي بكر الصديق ،  والجمع الثالث - وهو ترتيب السور - كان بحضرة  عثمان     .  
واختلف في  الحرف الذي كتب عثمان عليه المصحف   فقيل : حرف   زيد بن ثابت ،  وقيل : حرف   أبي بن كعب ;  لأنه العرضة الأخيرة التي قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأول أكثر الرواة ، ومعنى حرف  زيد ،  أي : قراءته وطريقته .  
وفي كتاب " فضائل القرآن "  لأبي عبيد ،  عن  أبي وائل  ،  قيل   لابن مسعود     : إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا ، فقال : ذاك منكوس القلب     . رواه  البيهقي     .  
وأما  ترتيب السور على ما هو عليه الآن فاختلف : هل هو توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من فعل الصحابة لم يفصل ؟   في ذلك ثلاثة أقوال :  
1 - مذهب جمهور العلماء ; منهم  مالك   والقاضي أبو بكر بن الطيب ،  فيما اعتمده واستقر عليه رأيه من أحد قوليه إلى الثاني ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فوض ذلك إلى أمته بعده .  
2 - وذهبت طائفة إلى الأول ; والخلاف يرجع إلى اللفظ ; لأن القائل بالثاني يقول : إنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ; ولهذا قال   الإمام مالك     : إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم ،      [ ص: 355 ] فآل الخلاف إلى أنه : هل ذلك بتوقيف قولي أم بمجرد استناد فعلي ، وبحيث بقي لهم فيه مجال للنظر . فإن قيل : فإذا كانوا قد سمعوه منه ، كما استقر عليه ترتيبه ففي ماذا أعملوا الأفكار ؟ وأي مجال بقي لهم بعد هذا الاعتبار ؟ قيل : قد روى  مسلم  في " صحيحه " عن  حذيفة  قال :  صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح سورة " البقرة " ، فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة ، فمضى فقلت : يركع بها ، ثم افتتح " النساء " فقرأها ، ثم افتتح " آل عمران "     . الحديث ، فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما فعل هذا إرادة للتوسعة على الأمة ، وتبيانا لجليل تلك النعمة كان محلا للتوقف ، حتى استقر النظر على رأي ما كان من فعله الأكثر . فهذا محل اجتهادهم في المسألة .  
3 - والقول الثالث ، مال إليه  القاضي أبو محمد بن عطية     : أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته - صلى الله عليه وسلم - كالسبع الطوال والحواميم والمفصل ، وأشاروا إلى أن ما سوى ذلك يمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده .  
وقال  أبو جعفر بن الزبير     : الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه  ابن عطية ،  ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف ; كقوله :  اقرءوا الزهراوين : " البقرة " ، و " آل عمران "  رواه  مسلم ،  ولحديث   معبد بن خالد     :  صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبع الطوال في ركعة     . رواه   ابن أبي شيبة  في " مصنفه " ، وفيه :  أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة     .  
 [ ص: 356 ] وروى   البخاري  عن   ابن مسعود     - رضي الله عنه - قال في " بني إسرائيل " و " الكهف " ، و " مريم " ، و " طه " ، و " الأنبياء " : " إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي "  فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها .  
وفي " صحيح   البخاري     " :  أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، فقرأ :  قل هو الله أحد   والمعوذتين "     .  
وقال   أبو جعفر النحاس     : " المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي ذلك عن   علي بن أبي طالب     " ثم ساق بإسناده إلى   أبي داود الطيالسي     : حدثنا   عمران القطان ،  عن  قتادة ،  عن   أبي المليح الهذلي ،  عن   واثلة بن الأسقع ،  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :  أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل     .  
قال  أبو جعفر     : " وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه مؤلف من ذلك الوقت ، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد ; لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تأليف القرآن ، وفيه أيضا دليل على أن سورة " الأنفال " سورة على حدة ، وليست من براءة .  
قال   أبو الحسين أحمد بن فارس  في كتاب " المسائل الخمس " : " جمع القرآن على ضربين :  
أحدهما : تأليف السور ; كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ; فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة - رضوان الله عليهم - .  
وأما الجمع الآخر فضم الآي بعضها إلى بعض ، وتعقيب      [ ص: 357 ] القصة بالقصة ، فذلك شيء تولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به  جبريل   عن أمر ربه - عز وجل - .  
وكذا قال  الكرماني  في " البرهان " : ترتيب السور هكذا هو عند الله ، وفي اللوح المحفوظ وهو على هذا الترتيب كان يعرض - عليه السلام - على  جبريل   كل سنة ما كان يجتمع عنده منه ، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين .  
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله تعالى :  فأتوا بعشر سور      ( هود : 13 ) ، معناه مثل " البقرة " إلى سورة " هود " ، وهي العاشرة ، ومعلوم أن سورة " هود " مكية ، وأن " البقرة " ، و " آل عمران " ، و " النساء " ، و " المائدة " ، و " الأنفال " و " التوبة " مدنيات نزلت بعدها .  
وفسر بعضهم قوله :  ورتل القرآن ترتيلا      ( المزمل : 4 ) ، أي : اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير . وجاء النكير على من قرأه معكوسا . ولو  حلف أن يقرأ القرآن على الترتيب   لم يلزم إلا على هذا الترتيب . ولو نزل القرآن جملة واحدة كما اقترحوا عليه لنزل على هذا الترتيب ; وإنما تفرقت سوره وآياته نزولا ، لحاجة الناس إليها حالة بعد حالة ; ولأن فيه الناسخ والمنسوخ ، ولم يكن ليجتمعا نزولا ، وأبلغ الحكم في تفرقه ما قال سبحانه :  وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث      ( الإسراء : 106 ) ، وهذا أصل بني عليه مسائل كثيرة .  
وقال   القاضي أبو بكر بن الطيب     : فإن قيل : قد اختلف السلف في ترتيب القرآن ، فمنهم من كتب في المصحف السور على تاريخ نزولها ، وقدم المكي على المدني ، ومنهم جعل من أوله :  اقرأ باسم ربك      ( العلق : 1 ) وهو أول مصحف  علي ،  وأما مصحف   ابن مسعود  فأوله :  مالك يوم الدين      ( الفاتحة : 4 ) ، ثم " البقرة " ، ثم " النساء " ، على ترتيب مختلف ، وفي مصحف  أبي  كان أوله الحمد ، ثم " النساء " ، ثم " آل عمران " ، ثم " الأنعام " ، ثم " الأعراف " ، ثم " المائدة " ، على اختلاف شديد .  
فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم على وجه الاجتهاد من      [ ص: 358 ] الصحابة - رضي الله عنهم - وذكر ذلك   مكي  في سورة براءة ، وأن وضع البسملة في الأول هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - .  
وقال   أبو بكر بن الأنباري     : " أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ، ثم فرق في بضع وعشرين ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر ; ويقف  جبريل   النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع السورة والآية ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، كله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم الآيات .  
قال  القاضي أبو بكر     : ومن نظم السور على المكي والمدني لم يدر أين يضع الفاتحة ، لاختلافهم في موضع نزولها ، ويضطر إلى تأخير الآية في رأس خمس وثلاثين ومائتين من " البقرة " إلى رأس الأربعين ، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					