وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة ، وحيد الدهر ، وفريد العصر ، جامع أشتات الفضائل ، وناصر الحق بالبرهان من الدلائل ، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي ، بلغه الله منه ما يرجوه :
الحمد لله الذي نور بكتابه القلوب ، وأنزله في أوجز لفظ وأعجز أسلوب ، فأعيت بلاغته البلغاء ، وأعجزت حكمته الحكماء ، وأبكمت فصاحته الخطباء .
أحمده أن جعل الحمد فاتحة أسراره ، وخاتمة تصاريفه وأقداره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله المصطفى ، ونبيه المرتضى ، الظافر من المحامد بالخصل ، الظاهر بفضله على ذوي الفضل ، معلم الحكمة ، وهادي الأمة ، أرسله بالنور الساطع ، والضياء اللامع ، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار ، وصحبه الأخيار .
أما بعد : فإن أولى ما أعملت فيه القرائح ، وعلقت به الأفكار اللواقح ، الفحص عن أسرار التنزيل ، والكشف عن حقائق التأويل ، الذي تقوم به المعالم ، وتثبت الدعائم ، فهو [ ص: 96 ] العصمة الواقية ، والنعمة الباقية ، والحجة البالغة ، والدلالة الدامغة ، وهو شفاء الصدور ، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور ; وهو الكلام الجزل ، وهو الفصل الذي ليس بالهزل ، سراج لا يخبو ضياؤه ، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه ، وبحر لا يدرك غوره . بهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول ، وتظافر إيجازه وإعجازه ، وتظاهرت حقيقته ومجازه ، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه ، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه ، قد أحكم الحكيم صيغته ومبناه ، وقسم لفظه ومعناه ، إلى ما ينشط السامع ، ويقرط المسامع ، من تجنيس أنيس ، وتطبيق لبيق ، وتشبيه نبيه ، وتقسيم وسيم ، وتفصيل أصيل ، وتبليغ بليغ ، وتصدير بالحسن جدير ، وترديد ما له مزيد ; إلى غير ذلك مما احتوى من الصياغة البديعة ، والصناعة الرفيعة ، فالآذان بأقراطه حالية ، والأذهان من أسماطه غير خالية ; فهو من تناسب ألفاظه ، وتناسق أغراضه ، قلادة ذات اتساق ; ومن تبسم زهره ، وتنسم نشره ، حديقة مبهجة للنفوس والأسماع والأحداق ; كل كلمة منه لها من نفسها طرب ، ومن ذاتها عجب ، ومن طلعتها غرة ، ومن بهجتها درة ، لاحت عليه بهجة القدرة ، ونزل ممن له الأمر ، فله على كل كلام سلطان وإمرة ، بهر تمكن فواصله ، وحسن ارتباط أواخره بأوائله ، وبديع إشاراته ، وعجيب انتقالاته ; من قصص
باهرة ، إلى مواعظ زاجرة ، [ ص: 97 ] وأمثال سائرة ، وحكم زاهرة ، وأدلة على التوحيد ظاهرة ، وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة ، ومواقع تعجب واعتبار ، ومواطن تنزيه واستغفار ; إن كان سياق الكلام ترجية بسط ، وإن كان تخويفا قبض ، وإن كان وعدا أبهج ، وإن كان وعيدا أزعج ، وإن كان دعوة حدب ، وإن كان زجرة أرعب ، وإن كان موعظة أقلق ، وإن كان ترغيبا شوق .
هذا ، وكم فيه من مزايا وفي زواياه من خبايا ويطمع الحبر في التقاضي
فيكشف الخبر عن قضايا
أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سنة الكرى
يملأ القلوب بشرا ، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا ، يحيي القلوب بأوراده ، ولهذا سماه الله روحا ; فقال : ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) ( غافر : 15 ) ; فسماه روحا لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ، ولولا الروح لمات الجسد ، فجعل هذا الروح سببا للاقتدار ، وعلما على الاعتبار .
يزيد على طول التأمل بهجة كأن العيون الناظرات صياقل
وإنما يفهم بعض معانيه ، ويطلع على أسراره ومبانيه ; من قوي نظره ، واتسع مجاله في الفكر وتدبره ; وامتد باعه ; ورقت طباعه ، وامتد في فنون الأدب ، وأحاط بلغة العرب .
[ ص: 98 ] قال الحرالي
في جزء سماه : " مفتاح الباب المقفل ، لفهم القرآن المنزل " : " لله تعالى مواهب ، جعلها أصولا للمكاسب ، فمن وهبه عقلا يسر عليه السبيل ، ومن ركب فيه خرقا نقص ضبطه من التحصيل ، ومن أيده بتقوى الاستناد إليه في جميع أموره علمه وفهمه " . قال : " ، ووعيا عن كتابه ، وتبصرة في الفرقان ، وإحاطة بما شاء من علوم القرآن ، ففيه تمام شهود ما كتب الله لمخلوقاته من ذكره الحكيم ; بما يزيل بكريم عنايته من خطأ اللاعبين ; إذ فيه كل العلوم . وأكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهما في كلامه
وقال - رضي الله عنه - : " جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن ، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى ، وصفاته العليا - زاد غيره : وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم - وكما أنه أفضل من كل كلام سواه ، فعلومه أفضل من كل علم عداه ; قال تعالى : ( الشافعي أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) ( الرعد : 19 ) ، وقال تعالى : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ( البقرة : 269 ) ، وقال مجاهد : الفهم والإصابة في القرآن . وقال مقاتل : يعني علم القرآن .
[ ص: 99 ] وقال في قوله تعالى : ( سفيان بن عيينة سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) ( الأعراف : 146 ) ، قال : أحرمهم . فهم القرآن
وقال : لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدا . سفيان الثوري
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : " مثل علم القرآن مثل الأسد لا يمكن من غلته سواه " .
قال : " أبى الله - عز وجل - أن يكرم قلوب البطالين مكنون حكمة القرآن " . ذو النون المصري
وقال - عز وجل - : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام : 38 ) . وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) ، ( النساء : 82 ) .
[ ص: 100 ] وقال في قوله تعالى : ( عبد الله بن مسعود اهدنا الصراط المستقيم ) ( الفاتحة : 6 )
قال : " القرآن " يقول : أرشدنا إلى علمه .
وقال : علم القرآن ذكر لا يعلمه إلا الذكور من الرجال " . الحسن البصري
وقال الله - جل ذكره - : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) . ( النساء : 59 ) ، وقال تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ( الشورى : 10 ) ; يقول : إلى كتاب الله " .
وكل علم من العلوم منتزع من القرآن ، وإلا فليس له برهان . قال : " من أراد العلم فليثور القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين " رواه ابن مسعود البيهقي في " المدخل " وقال : " أراد به أصول العلم " .
وقد كانت الصحابة - رضي الله عنهم - علماء ; كل منهم مخصوص بنوع من العلم كعلي - رضي الله تعالى عنه - بالقضاء ، وزيد بالفرائض ، ومعاذ بالحلال والحرام ، وأبي بالقراءة ، [ ص: 101 ] فلم يسم أحد منهم بحرا إلا عبد الله بن عباس لاختصاصه دونهم بالتفسير وعلم التأويل ; وقال فيه : " كأنما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق " . وقال فيه علي بن أبي طالب : " نعم ترجمان القرآن عبد الله بن مسعود " ; وقد مات عبد الله بن عباس في سنة ثنتين وثلاثين ; وعمر بعده ابن مسعود ستا وثلاثين سنة ; فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن عباس ! نعم ; كان ابن مسعود لعلي فيه اليد السابقة قبل وهو القائل : " لو أردت أن أملي وقر بعير على الفاتحة لفعلت " . ابن عباس ;
وقال ابن عطية : " فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم ويتلوه فعلي بن أبي طالب ، - رضي الله عنهما - ; وهو تجرد للأمر وكمله ، وتتبعه العلماء عليه ; ابن عباس كمجاهد وغيرهما . وكان جلة من السلف وسعيد بن جبير كسعيد بن المسيب وغيرهما ، يعظمون تفسير القرآن ، ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم وتقدمهم " ، ثم جاء بعدهم طبقة فطبقة ، فجدوا واجتهدوا ، وكل ينفق مما رزقه الله ; ولهذا [ ص: 102 ] كان والشعبي - رضي الله عنه - يقول : " لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه ; لأنه كلام الله ، وكلامه صفته . وكما أنه ليس لله نهاية ، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه ; وإنما يفهم كل مقدار ما يفتح الله عليه . وكلام الله غير مخلوق ، ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة " . سهل بن عبد الله
ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر ، ومعانيه لا تستقصى ، وجبت العناية بالقدر الممكن . ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه ، كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث ، فاستخرت الله تعالى - وله الحمد - في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلم الناس في فنونه ، وخاضوا في نكته وعيونه ، وضمنته من المعاني الأنيقة ، والحكم الرشيقة ، ما يهز القلوب طربا ، ويبهر العقول عجبا ; ليكون مفتاحا لأبوابه ، وعنوانا على كتابه : معينا للمفسر على حقائقه ، ومطلعا على بعض أسراره ودقائقه ; والله المخلص والمعين ، وعليه أتوكل ، وبه أستعين ، وسميته : " البرهان في علوم القرآن " . وهذه فهرست أنواعه :
الأول : معرفة سبب النزول .
الثاني : معرفة المناسبات بين الآيات .
الثالث : معرفة الفواصل .
الرابع : معرفة الوجوه والنظائر .
الخامس : علم المتشابه .
السادس : علم المبهمات .
السابع : في أسرار الفواتح .
[ ص: 103 ] الثامن : في خواتم السور .
التاسع : في معرفة المكي والمدني .
العاشر : معرفة أول ما نزل .
الحادي عشر : معرفة على كم لغة نزل .
الثاني عشر : في كيفية إنزاله .
الثالث عشر : في بيان جمعه ومن حفظه من الصحابة .
الرابع عشر : معرفة تقسيمه .
الخامس عشر : معرفة أسمائه .
السادس عشر : معرفة ما وقع فيه من غير لغة الحجاز .
السابع عشر : معرفة ما فيه من غير لغة العرب .
الثامن عشر : معرفة غريبه .
التاسع عشر : معرفة التصريف .
العشرون : معرفة الأحكام .
الحادي والعشرون : معرفة كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح .
الثاني والعشرون : معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص .
الثالث والعشرون : معرفة توجيه القراءات .
الرابع والعشرون : معرفة الوقف والابتداء .
الخامس والعشرون : علم مرسوم الخط .
السادس والعشرون : معرفة فضائله .
السابع والعشرون : معرفة خواصه .
الثامن والعشرون : هل في القرآن شيء أفضل من شيء .
التاسع والعشرون : في آداب تلاوته .
الثلاثون : في أنه هل يجوز في التصانيف والرسائل والخطب استعمال بعض آيات القرآن .
الحادي والثلاثون : معرفة الأمثال الكائنة فيه .
الثاني والثلاثون : معرفة أحكامه .
[ ص: 104 ] الثالث والثلاثون : في معرفة جدله .
الرابع والثلاثون : معرفة ناسخه ومنسوخه .
الخامس والثلاثون : معرفة موهم المختلف .
السادس والثلاثون : في معرفة المحكم من المتشابه .
السابع والثلاثون : في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات .
الثامن والثلاثون : معرفة إعجازه .
التاسع والثلاثون : معرفة وجوب تواتره .
الأربعون : في بيان معاضدة السنة للكتاب .
الحادي والأربعون : معرفة تفسيره .
الثاني والأربعون : معرفة وجوب المخاطبات .
الثالث والأربعون : بيان حقيقته ومجازه .
الرابع والأربعون : في الكناية والتعريض .
الخامس والأربعون : في أقسام معنى الكلام .
السادس والأربعون : في ذكر ما يتيسر من أساليب القرآن .
السابع والأربعون : في معرفة الأدوات .
واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه ، لاستفرغ عمره ، ثم لم يحكم أمره ; ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله ، والرمز إلى بعض فصوله ; فإن الصناعة طويلة والعمر قصير ; وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير !
قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين