وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن ، فأنكره بعضهم ؛ لأن الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة ، كقوله - تعالى - : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ( العنكبوت : 14 ) والصحيح أنه واقع .
كقوله : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ( آل عمران : 173 ) وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعا ؛ والمراد بعضهم ؛ لأن القائلين غير المقول لهم ، والمراد بالأول نعيم بن سعيد الثقفي ، والثاني أبو سفيان وأصحابه . قال الفارسي : ومما يقوي أن المراد بالناس في قوله : إن الناس قد جمعوا لكم واحد - قوله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ( آل عمران : 175 ) فوقعت الإشارة بقوله : ( ذلكم ) إلى واحد بعينه ، ولو كان المعني به جمعا لكان " إنما الشياطين الشياطين " فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ ، وقيل بل وضع فيه ( الذين ) موضع الذي .
[ ص: 352 ] وقوله : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ( البقرة : 13 ) يعني . عبد الله بن سلام
وقوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ( الحجرات : 4 ) قال الضحاك : وهو الأقرع بن حابس .
وقوله - تعالى - : ياأيها الناس اتقوا ربكم ( النساء : 1 ) لم يدخل فيه الأطفال والمجانين .
ثم التخصيص يجيء تارة في آخر الآية ، كقوله - تعالى - : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ( النساء : 4 ) فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقلة أو مجنونة ثم خص في آخرها بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الآية ( النساء : 4 ) ، فخصها بالعاقلة البالغة ؛ لأن من عداها عبارتها ملغاة في العفو .
ونظيره قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة : 228 ) فإنه عام في البائنة والرجعية ثم خصها بالرجعية بقوله : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ( البقرة : 228 ) لأن البائنة لا تراجع .
وتارة في أولها كقوله - تعالى - : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ( البقرة : 229 ) فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج ثم قال بعد : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ( البقرة : 229 ) فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره إذا كان ملكا لها .
وقد يأخذ التخصيص من آية أخرى كقوله - تعالى - : ومن يولهم يومئذ دبره الآية ( الأنفال : 16 ) ، فهذا عام في المقاتل كثيرا أو قليلا ، ثم قال : إن يكن منكم عشرون صابرون الآية ( الأنفال : 65 ) .
ونظيره قوله : حرمت عليكم الميتة ( المائدة : 3 ) وهذا عام في جميع الميتات ، ثم خصه بقوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ( المائدة : 4 ) فأباح الصيد الذي يموت في فم الجارح المعلم .
وخصص أيضا عمومه في آية أخرى قال : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ( المائدة : 96 ) تقديره : وإن كانت ميتة فخص بهذه الآية [ ص: 353 ] عموم تلك . ومثله قوله - تعالى - : أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ( النور : 29 ) .
ونظيره قوله : والدم ( البقرة : 173 ) ، وقال في آية أخرى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ( الأنعام : 145 ) يعني إلا الكبد والطحال ؛ فهو حلال .
ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام ، وهي مكية ، والآية العامة في سورة المائدة ( الآية : 3 ) ، وهي مدنية ، وقد تقدم الخاص على العام في هذا الموضع ، كما تقدم في النزول آية الوضوء ؛ على أنه التيمم ، وهذا ماش على مذهب في أن الشافعي . العبرة بالخاص ؛ سواء تقدم أم تأخر
ومثله قوله - تعالى - : وآتيتم إحداهن قنطارا الآية ( النساء : 20 ) وهذا عام سواء رضيت المرأة أم لا ، ثم خصها بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه ( النساء : 4 ) ، وخصها بقوله : فلا جناح عليهما فيما افتدت به ( البقرة : 229 ) .
ومثله قوله - تعالى - : والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية ( البقرة : 228 ) ، فهذا عام في المدخول بها وغيرها ثم خصها فقال : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن الآية ( الأحزاب : 49 ) ، فخص الآيسة والصغيرة والحامل ؛ فالآيسة والصغيرة بالأشهر ، والحامل بالوضع .
ونظيره قوله : والذين يتوفون منكم الآية ( البقرة : 234 ) ، وهذا عام في الحامل والحائل ، ثم خص بقوله : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ( الطلاق : 4 ) .
ونظيره قوله - تعالى - : فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية ( النساء : 3 ) ، وهذا عام في ذوات المحارم والأجنبيات ، ثم خص بقوله : حرمت عليكم أمهاتكم الآية ( النساء : 23 ) ، وقوله : الزانية والزاني ( النور : 2 ) عام في الحرائر والإماء ، ثم خصه بقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ( النساء : 25 ) .
وقوله : لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ( البقرة : 254 ) فإن الخلة عامة ، ثم خصها بقوله : [ ص: 354 ] الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ( الزخرف : 67 ) .
وكذلك قوله : ولا شفاعة ( البقرة : 254 ) بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .
فائدة
قد يكون الكلامان متصلين ، وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عاما ؛ وذلك نحو قولهم لمن أعطى زيدا درهما : أعط عمرا ، فإن لم تفعل فما أعطيت ؛ يريد إن لم تعط عمرا ، فأنت لم تعط زيدا أيضا ، وذاك غير محسوب لك . ذكره ابن فارس ، وخرج عليه قوله - تعالى - : بلغ ما أنزل إليك من ربك ( المائدة : 67 ) قال : فهذا خاص به يريد هذا الأمر المحدد بلغه ، وإن لم تفعل ( المائدة : 67 ) ولم تبلغ فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) يريد جميع ما أرسلت به .
قلت : وهو وجه حسن ؛ وفي الآية وجوه أخر :
أحدها : أن المعنى أنك إن تركت منها شيئا كنت كمن لا يبلغ شيئا منها ، فيكون ترك البعض محبطا للباقي . قال الراغب : وكذلك أن حكم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في تكليفاتهم أشد ، وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ وروي هذا المعنى عن - رضي الله عنهما . ابن عباس
والثاني : قال الإمام فخر الدين : إنه من باب قوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري
[ ص: 355 ] معناه : أن شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حد شيء قيل في نظم : إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير المبالغة التامة في المدح من هذا الوجه . وكذا جواب الشرط هاهنا ؛ يعني به أنه لا يمكن أن يوصف ترك بعض المبلغ تهديدا أعظم من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد ، وضعف الوجه الذي قبله بأن من أتى بالبعض وترك البعض ، لو قيل : إنه ترك الكل كان كذبا ، ولو قيل : إن الخلل في ترك البعض ، كالخلل في ترك الكل ، فإنه أيضا محال .وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر ؛ لأنه إذا كان متى أتي به غير معتد به فوجوده كالعدم ، كقول الشاعر :
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا فسيان لا ذم عليك ولا حمد
الثالث : أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل ، كما في قوله - تعالى - : فكأنما قتل الناس جميعا ( المائدة : 32 ) .
الرابع : أنه ومعناه : إن لم تفعل ذلك ، فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العذاب . ذكر هذا والذي قبله صاحب " الكشاف " . وضع السبب موضع المسبب ،
تنبيه : قال الإمام أبو بكر الرازي : وفي هذه الآية دلالة على أن كل ما [ ص: 356 ] كان من الأحكام للناس إليه حاجة عامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغه الكافة ، وإنما وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر ؛ نحو الوضوء من مس الفرج ومن مس المرأة ، ومما مست النار ونحوها ، لعموم البلوى بها ، فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر ، علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل . انتهى .
وهذه الدلالة ممنوعة ؛ لأن التبليغ مطلق غير مقيد بصورة التواتر فيما تعم به البلوى ، فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل . ومن المعلوم أن لأنه المعجز الأكبر ، وطريق معرفته القطع ، فأما باقي الأحكام فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل بها إلى الآحاد والقبائل ، وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا . الله - سبحانه - لم يكلف رسوله - صلى الله عليه وسلم - إشاعة شيء إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن ؛