الأول : بمعنى الخبر ؛ وهو ضربان : أحدهما : نفي ، والثاني إثبات ، فالوارد للنفي يسمى استفهام إنكار ، والوارد للإثبات يسمى استفهام تقرير ؛ لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب ، وبالثاني إقراره به .
فالأول : المعنى فيه على أن ما بعد الأداة منفي . ولذلك تصحبه إلا كقوله - تعالى - : فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( الأحقاف : 35 ) .
وقوله - تعالى - : وهل نجازي إلا الكفور ( سبأ : 17 ) .
ويعطف عليه المنفي ، كقوله - تعالى - : فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ( الروم : 29 ) أي لا يهدي ؛ وهو كثير .
ومنه : أفأنت تنقذ من في النار ( الزمر : 19 ) أي لست تنقذ من في النار : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( يونس : 99 ) .
أفغير الله أبتغي حكما ( الأنعام : 114 ) . وكقوله - تعالى - : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( الشعراء : 111 ) ، فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( المؤمنون : 47 ) أي لا نؤمن .
وقوله : أم له البنات ولكم البنون ( الطور : 39 ) أي لا يكون هذا .
وقوله - تعالى - : أؤنزل عليه الذكر من بيننا ( ص : 8 ) [ ص: 435 ] أي ما أنزل . وقوله - تعالى - : أشهدوا خلقهم ( الزخرف : 19 ) أي ما شهدوا ذلك . وقوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ( الزخرف : 40 ) أي ليس ذلك إليك ، كما قال - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ( النمل : 80 ) . وقوله - تعالى - : أفعيينا بالخلق الأول ( ق : 15 ) أي لم نعي به .
وهنا أمران :
أحدهما : أن ؛ كقوله - تعالى - : الإنكار قد يجيء لتعريف المخاطب أن ذلك المدعى ممتنع عليه ؛ وليس من قدرته أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ( الزخرف : 40 ) لأن إسماع الصم لا يدعيه أحد ؛ بل المعنى أن إسماعهم لا يمكن ؛ لأنهم بمنزلة الصم والعمي ، وإنما قدم الاسم في الآية ، ولم يقل : أتسمع الصم ؟ إشارة إلى إنكار موجه عن تقدير ظن منه - عليه السلام - أنه يختص بإسماع من به صمم ، وأنه ادعى القدرة على ذلك ، وهذا أبلغ من إنكار الفعل . وفيه ، فإذا قلت : أتفعل ؟ أو أأنت تفعل ؟ احتمل وجهين : دخول الاستفهام على المضارع
أحدهما : إنكار وجود الفعل ، كقوله - تعالى - : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( هود : 28 ) والمعنى لسنا بمثابة من يقع منه هذا الإلزام ، وإن عبرنا بفعل ذلك ؛ جل الله - تعالى - عن ذلك ، بل المعنى إنكار أصل الإلزام .
والثاني : قولك لمن يركب الخطر : أتذهب في غير طريق ؟ انظر لنفسك واستبصر . فإذا قدمت المفعول توجه الإنكار إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل ، كقوله : قل أغير الله أتخذ وليا ( الأنعام : 14 ) وقوله : أغير الله تدعون ( الأنعام : 40 ) المعنى : أغير الله بمثابة من يتخذ وليا ! .
ومنه : أبشرا منا واحدا نتبعه ( القمر : 24 ) لأنهم بنوا كفرهم على أنه ليس بمثابة من يتبع صيغة المستقبل ؛ إما أن يكون للحال ، نحو : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( يونس : 99 ) أو للاستقبال ، نحو : أهم يقسمون رحمة ربك ( الزخرف : 32 ) .
[ ص: 436 ] الثاني : ، كقوله - تعالى - : قد يصحب الإنكار التكذيب للتعريض بأن المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه أاصطفى البنات على البنين ( الصافات : 153 ) ، ألكم الذكر وله الأنثى ( النجم : 21 ) ، أإله مع الله ( النمل : 60 ) .
وسواء كان زعمهم له صريحا ، مثل : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ( الطور : 15 ) أو التزاما مثل : أشهدوا خلقهم ( الزخرف : 19 ) فإنهم لما جزموا بذلك جزم من يشاهد خلق الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم .
وتسمية هذا استفهام إنكار من أنكر إذا جحد ، وهو إما بمعنى " لم يكن " كقوله - تعالى - : أفأصفاكم ( الإسراء : 40 ) أو بمعنى لا يكون ، نحو : أنلزمكموها ( هود : 28 ) .
والحاصل أن . الإنكار قسمان : إبطالي ، وحقيقي
فالإبطالي ؛ أن يكون ما بعدها غير واقع ، ومدعيه كاذب كما ذكرنا ، والحقيقي يكون ما بعدها واقعا ، وأن فاعله مذموم نحو : أتعبدون ما تنحتون ( الصافات : 95 ) ، أغير الله تدعون ( الأنعام : 40 ) ، أئفكا آلهة ( الصافات : 86 ) ، أتأتون الذكران ( الشعراء : 165 ) ، أتأخذونه بهتانا ( النساء : 20 ) .
وأما الثاني : فهو ، والتقرير حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ، قال أبو الفتح في الخاطريات : ولا يستعمل ذلك بـ " هل " ، وقال في قوله : استفهام التقرير
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
[ ص: 437 ] وهل لا تقع تقريرا كما يقع غيرها مما هو للاستفهام انتهى .وقال الكندي : ذهب كثير من العلماء في قوله - تعالى - : هل يسمعونكم ( الشعراء : 72 ) إلى أن " هل " تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ ، إلا أني رأيت أبا علي أبى ذلك ، وهو معذور ، فإن ذلك من قبيل الإنكار انتهى .
ونقل الشيخ أبو حيان عن أن استفهام التقرير لا يكون بـ " هل " إنما تستعمل فيه الهمزة ، ثم نقل عن بعضهم ، أن " هل " تأتي تقريرا كما في قوله - تعالى - : سيبويه ، هل في ذلك قسم لذي حجر ( الفجر : 5 ) . والكلام مع التقرير موجب ، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ، ويعطف على صريح الموجب .
فالأول كقوله : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ( الضحى : 6 و 7 ) وقوله : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك ( الانشراح : 1 ، 2 ) ، ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل ( الفيل : 2 - 3 ) .
[ ص: 438 ] والثاني كقوله : أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ( النمل : 84 ) على ما قرره الجرجاني في النظم حيث جعلها مثل قوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ( النمل : 14 ) .
ويجب أن يلي الأداة الشيء الذي تقرر بها ، فتقول في تقرير الفعل : أضربت زيدا ؟ ، والفاعل نحو : أأنت ضربت ؟ ، أو المفعول أزيدا ضربت ؟ كما يجب في الاستفهام الحقيقي .
وقوله - تعالى - : أأنت فعلت هذا بآلهتنا ( الأنبياء : 62 ) يحتمل الاستفهام الحقيقي ، بأن يكونوا لم يعلموا أنه الفاعل ، والتقريري بأن يكونوا علموا ، ولا يكون استفهاما عن الفعل ، ولا تقريرا له ؛ لأنه لم يله ، ولأنه أجاب بالفاعل ، بقوله : بل فعله كبيرهم ( الأنبياء : 63 ) .
وجعل منه : الزمخشري ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( البقرة : 106 ) .
وقيل : أراد التقرير بما بعد النفي ، لا التقرير بالنفي والأولى أن يجعل على الإنكار ، أي ألم تعلم أيها المنكر للنسخ !
أنه استفهام إنكار ، والإنكار نفي ، وقد دخل على المنفي ، ونفي المنفي إثبات ، والذي يقرر عندك أن معنى التقرير الإثبات قول وحقيقة استفهام التقرير ابن السراج : فإذا [ ص: 439 ] أدخلت على ليس ألف الاستفهام كانت تقريرا ، ودخلها معنى الإيجاب ، فلم يحسن معها أحد ، لأن أحدا إنما يجوز مع حقيقة النفي ؛ لا تقول : أليس أحد في الدار ؛ لأن المعنى يؤول إلى قولك : أحد في الدار ، وأحد لا تستعمل في الواجب . انتهى
وأمثلته كثيرة ، كقوله - تعالى - : ألست بربكم ( الأعراف : 172 ) أي أنا ربكم .
وقوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( القيامة : 40 ) . أوليس الذي خلق السماوات والأرض ( يس : 81 ) . أليس الله بكاف عبده ( الزمر : 36 ) . أليس الله بعزيز ذي انتقام ( الزمر : 37 ) . أليس في جهنم مثوى للكافرين ( الزمر : 32 ) . أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ( العنكبوت : 51 ) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا جف . وقول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا
واعلم أن في جعلهم الآية الأولى من هذا النوع إشكالا ؛ لأنه لو خرج الكلام عن النفي لجاز أن يجاب بنعم ، وقد قيل : إنهم لو قالوا : " نعم " كفروا ، ولما حسن دخول الباء [ ص: 440 ] في الخبر ، ولو لم تفد لفظة الهمزة استفهاما لما استحق الجواب ، إذ لا سؤال حينئذ .
والجواب يتوقف على مقدمة ، وهي أن ، يدخل بأحد وجهين : الاستفهام إذا دخل على النفي
إما أن يكون الاستفهام عن النفي ، هل وجد أم لا ؟ فيبقى النفي على ما كان عليه ، أو للتقرير كقوله : ألم أحسن إليك ؟ وقوله - تعالى - : ألم نشرح لك صدرك ( الانشراح : 1 ) ، ألم يجدك يتيما ( الضحى : 6 ) .
فإن كان بالمعنى الأول لم يجز دخول " نعم " في جوابه إذا أردت إيجابه ، بل تدخل عليه " بلى " ، وإن كان بالمعنى الثاني - وهو التقرير - فللكلام حينئذ لفظ ومعنى ، فلفظه نفي داخل عليه الاستفهام ، ومعناه الإثبات ، فبالنظر إلى لفظه تجيبه ببلى ، وبالنظر إلى معناه ، وهو كونه إثباتا تجيبه بنعم .
وقد أنكر عبد القاهر كون الهمزة للإيجاب ، لأن الاستفهام يخالف الواجب ، وقال : إنها إذا دخلت على ما أو ليس يكون تقريرا وتحقيقا ، كقوله - تعالى - : فالتقرير أأنت قلت للناس ( المائدة : 116 ) ، أأنت فعلت هذا ( الأنبياء : 62 ) .
واعلم أن هذا النوع يأتي على وجوه :
الأول : مجرد الإثبات ، كما ذكرنا .
الثاني : الإثبات مع الافتخار ، كقوله - تعالى - عن فرعون : أليس لي ملك مصر ( الزخرف : 51 ) .
الثالث : الإثبات مع التوبيخ ؛ كقوله - تعالى - : ألم تكن أرض الله واسعة ( النساء : 97 ) أي هي واسعة ، فهلا هاجرتم فيها .
الرابع : مع العتاب ، كقوله - تعالى - : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ( الحديد : 16 ) قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا [ ص: 441 ] أربع سنين . وما ألطف ما عاتب الله به خير خلقه بقوله - تعالى - : ابن مسعود عفا الله عنك لم أذنت لهم ( التوبة : 43 ) ولم يتأدب بأدب الله - تعالى - في هذه الآية . الزمخشري
الخامس : التبكيت كقوله - تعالى - : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ( المائدة : 116 ) هو تبكيت للنصارى فيما ادعوه ؛ كذا جعل السكاكي وغيره هذه الآية من نوع التقرير ، وفيه نظر لأن ذلك لم يقع منه .
السادس : التسوية ، وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها ، كقوله - تعالى - : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( يس : 10 ) أي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، مجردة للتسوية ، مضمحلا عنها معنى الاستفهام .
ومعنى الاستواء فيه استواؤهما في علم المستفهم ؛ لأنه قد علم أنه أحد الأمرين كائن ، إما الإنذار وإما عدمه ، ولكن لا يعينه ، وكلاهما معلوم بعلم غير معين .
فإن قيل : الاستواء يعلم من لفظة " سواء " لا من الهمزة ، مع أنه لو علم منه لزم التكرار .
قيل : هذا الاستواء غير ذلك الاستواء المستفاد من لفظة " سواء " .
وحاصله أنه كان الاستفهام عن مستويين فجرد عن الاستفهام ، وبقي الحديث عن المستويين ، ولا يكون ضرر في إدخال " سواء " عليه لتغايرهما ؛ لأن المعنى أن المستويين في العلم يستويان في عدم الإيمان ، وهذا - أعني حذف مقدر واستعماله فيما بقي - كثير في كلام العرب ، كما في النداء ، فإنه لتخصيص المنادى وطلب إقباله ، فيحذف قيد الطلب ، ويستعمل في مطلق الاختصاص ، نحو : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، فإنه ينسلخ عن [ ص: 442 ] معنى الكلمة ؛ لأن معناه مخصوص من بين سائر العصائب .
ومنه قوله - تعالى - : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ( إبراهيم : 21 ) . وقوله - تعالى - : سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ( المنافقون : 6 ) . أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( الشعراء : 136 ) . وتارة تكون التسوية مصرحا بها كما ذكرناه ، وتارة لا تكون ، كقوله - تعالى - : وإن أدري أقريب أم بعيد ( الأنبياء : 109 ) .
السابع : التعظيم ؛ كقوله - تعالى - : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( البقرة : 255 ) .
الثامن : التهويل ، نحو : الحاقة ما الحاقة ( الحاقة : 1 ، 2 ) . وقوله - تعالى - : وما أدراك ما هيه ( القارعة : 10 ) .
وقوله : ماذا يستعجل منه المجرمون ( يونس : 50 ) تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه .
التاسع : التسهيل والتخفيف ، كقوله - تعالى - : وماذا عليهم لو آمنوا بالله ( النساء : 39 ) .
العاشر : التفجع ، نحو : مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ( الكهف : 49 ) .
الحادي عشر : التكثير ، نحو : وكم من قرية أهلكناها ( الأعراف : 4 ) .
الثاني عشر : الاسترشاد ، نحو : أتجعل فيها من يفسد فيها ( البقرة : 30 ) والظاهر أنهم استفهموا مسترشدين ، وإنما فرق بين العبارتين أدبا ، وقيل : هي هنا للتعجب .