الأول : أن البصريين لم يعدوا شيئا منها آية ; وأما الكوفيون فمنها ما عدوه آية ، ومنها ما لم يعدوه آية ، وهو علم توقيفي لا مجال للقياس فيه ; كمعرفة السور ، أما ( الم ) [ ص: 260 ] فآية ، حيث وقعت من السور المفتتحة بها ، وهي ست ، وكذلك ( المص ) ( الأعراف ) آية ، و ( المر ) ( الرعد ) لم تعد آية ، و ( الر ) ليست بآية من سورها الخمس ، و ( طسم ) آية في سورتيها ( الشعراء والقصص ) ، و ( طه ) و ( يس ) آيتان ، و ( طس ) ليست بآية ، و ( حم ) آية في سورها كلها ، و ( حم عسق ) ( الشورى ) آيتان ، و ( كهيعص ) ( مريم ) آية واحدة ، و ( ص ) ( ص ) ، و ( ق ) ( ق ) ، و ( ن ) ( القلم ) ، لم تعد واحدة منها آية ، وإنما عد ما هو في حكم كلمة واحدة آية ، كما عد ( الرحمن ) ( الرحمن ) وحده ، و ( مدهامتان ) ( الرحمن : 64 ) ، وحدها آيتين على طريق التوقيف .
وقال الواحدي في " البسيط " في أول سورة " يوسف " : " لا يعد شيء منها آية إلا في ( طه ) ، وسره أن جميعها لا يشاكل ما بعده من رءوس الآي ، فلهذا لم يعد آية ، بخلاف : ( طه ) فإنها تشاكل ما بعدها " .
الثاني : هذه الفواتح الشريفة على ضربين :
أحدهما : ما لا يتأتى فيه إعراب ; نحو : ( كهيعص ) ( مريم ) ، و ( المر ) ( الرعد : 1 ) .
والثاني : ما يتأتى فيه ; وهو إما أن يكون اسما مفردا كـ " ص " و " ق " و " ن " ، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد ; كـ " حم " و " طس " و " يس " ، فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكذلك " طسم " يتأتى فيها أن تفتح نونها [ ص: 261 ] فتصير " ميما " مضمومة إلى " طس " فيجعلا اسما واحدا ، كـ " دارابجرد " ، فالنوع الأول محكي ليس إلا ، وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران : الإعراب والحكاية .
الثالث : أنه يوقف على جميعها وقف التمام ; إن حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ، وينعق بها كما ينعق بالأصوات ، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف ; كقوله تعالى : ( الم الله ) ( آل عمران ) ، أي : هذه السورة " الم " ، ثم ابتدأ فقال : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .
الرابع : أنها كتبت في المصاحف الشريفة على صورة الحروف أنفسها ، لا على صورة أساميها ; وعلل ذلك بأن الكلمة لما كانت مركبة من ذوات الحروف ، واستمرت العادة متى تهجيت ، ومتى قيل للكاتب : اكتب كيت وكيت ، أن يلفظ بالأسماء ، وتقع في الكتابة الحروف أنفسها ; فحمل على ذلك للمشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح . وأيضا فإن شهرة أمرها وإقامة ألسن الأحمر والأسود لها ، وأن اللافظ بها غير متهجاة لا يجيء بطائل فيها ، وأن بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده ، أمنت وقوع اللبس فيها . وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم الخط والهجاء ، ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان ; لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف .
أشار إلى هذه الأحكام المذكورة صاحب " الكشاف " .
وقد اختلف الناس في على قولين : الحروف المقطعة أوائل السور
أحدهما : أن هذا [ ص: 262 ] علم مستور ، وسر محجوب ، استأثر الله به ، ولهذا قال - رضي الله عنه - : " في كل كتاب سر ، وسره في القرآن أوائل السور " . قال الصديق : " إنها من المتشابه ، نؤمن بظاهرها ، ونكل العلم فيها إلى الله - عز وجل - " . الشعبي
قال الإمام الرازي : " وقد أنكر المتكلمون هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق ; لأن الله تعالى أمر بتدبره ، والاستنباط منه ، وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه ، ولأنه كما جاز التعبد بما لا يعقل معناه في الأفعال ، فلم لا يجوز في الأقوال بأن يأمرنا الله تارة بأن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارة بما لا نقف على معناه ، ويكون القصد منه ظهور الانقياد والتسليم .
القول الثاني : أن المراد منها معلوم ، وذكروا فيه ما يزيد على عشرين وجها ، فمنها البعيد ، ومنها القريب :
الأول - ويروى عن رضي الله عنهما : أن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه سبحانه ; فالألف من " الله " و " اللام " من " لطيف " و " الميم " من " مجيد " ، أو " الألف " من آلائه ، و " اللام " من لطفه ، و " الميم " من مجده . قال ابن عباس ابن فارس : وهذا وجه جيد ، وله في كلام العرب شاهد :
قلنا لها قفي فقالت ق
فعبر عن قولها : " وقفت " بـ " ق " .
[ ص: 263 ] الثاني : أن الله أقسم بهذه الحروف ، بأن هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد هو الكتاب المنزل لا شك فيه ، وذلك يدل على جلالة قدر هذه الحروف ، إذ كانت مادة البيان ، ومباني كتب الله المنزلة باللغات المختلفة ، وهي أصول كلام الأمم ، بها يتعارفون ، وقد أقسم الله تعالى بـ ( الفجر ) ، ( والطور ) ، فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها .
الثالث : أنها الدائرة من الحروف التسعة والعشرين ; فليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه - عز وجل - ، أو آلائه ، أو بلائه ، أو مدة أقوام أو آجالهم ، فالألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون ؛ روي عن قال الربيع بن أنس ، ابن فارس : وهو قول حسن لطيف ; لأن الله تعالى أنزل على نبيه " الفرقان " فلم يدع نظما عجيبا ولا علما نافعا إلا أودعه إياه ، علم ذلك من علمه ، وجهله من جهله .
الرابع : ويروى عن أيضا في قوله تعالى : ( الم ) أنا الله أعلم ، وفي ( ابن عباس المص ) أنا الله أعلم وأفصل ، و ( الر ) أنا الله أرى ، ونحوه من دلالة الحرف الواحد على الاسم التام ، والصفة التامة .
الخامس : أنها أسماء للسور ; فـ ( الم ) اسم لهذه و ( حم ) اسم لتلك ، وذلك أن الأسماء وضعت للتمييز ، فهكذا هذه الحروف وضعت لتمييز هذه السور من غيرها ، ونقله عن الأكثرين ، وأن الزمخشري نص عليه في كتابه ، وقال سيبويه الإمام فخر الدين : " هو قول أكثر المتكلمين " ، فإن قيل : فقد وجدنا ( الم ) افتتح بها عدة سور ، فأين التمييز ؟ قلنا : قد يقع الوفاق بين اسمين لشخصين ، ثم يميز بعد ذلك بصفة ونعت ، كما يقال : زيد وزيد ، ثم [ ص: 264 ] يميزان بأن يقال : زيد الفقيه ، وزيد النحوي ، فكذلك إذا قرأ القارئ : ( الم ذلك الكتاب ) ( البقرة ) ، فقد ميزها عن : ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) ( آل عمران ) .
السادس : أن لكل كتاب سرا ، وسر القرآن فواتح السور ، قال ابن فارس : " وأظن قائل ذلك أراد أنه من السر الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم " واختاره جماعة ; منهم . أبو حاتم بن حبان
قلت : وقد استخرج بعض أئمة المغرب من قوله تعالى : ( الم غلبت الروم ) ( الروم ) فتوح بيت المقدس ، واستنقاذه من العدو في سنة معينة ، وكان كما قال .
السابع : أن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه ، وقال بعضهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) ( فصلت : 26 ) ، فأنزل الله هذا النظم البديع ; ليعجبوا منه ، ويكون تعجبهم سببا لاستماعهم ، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده ، فترق القلوب ، وتلين الأفئدة .
الثامن : أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي : أ ، ب ، ت ، ث ، فجاء بعضها مقطعا ، وجاء تمامها مؤلفا ; ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعقلونها ، ويبنون كلامهم منها .
التاسع - واختاره ابن فارس وغيره - : أن تجعل هذه التأويلات كلها تأويلا واحدا ; فيقال : إن الله جل وعلا افتتح السور بهذه الحروف ، إرادة منه للدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة ، لا على معنى واحد ، فتكون هذه الحروف جامعة لأن تكون افتتاحا ، وأن يكون [ ص: 265 ] كل واحد منها مأخوذا من اسم من أسماء الله تعالى ، وأن يكون الله - عز وجل - قد وضعها هذا الوضع ، فسمى بها ، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين ، وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله تعالى في إنعامه وإفضاله ومجده ، وأن الافتتاح بها سبب لأن يسمع القرآن من لم يكن سمع ، وأن فيها إعلاما للعرب أن القرآن الدال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحروف ، وأن عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليل على كفرهم وعنادهم وجحودهم ، وأن كل عدد منها إذا وقع أول كل سورة فهو اسم لتلك السورة .
قال : " وهذا القول الجامع للتأويلات كلها " ، والله أعلم بما أراد من ذلك .
العاشر : أنها كالمهيجة لمن سمعها من الفصحاء ، والموقظة للهمم الراقدة من البلغاء لطلب التساجل ، والأخذ في التفاضل ، وهي بمنزلة زمجرة الرعد قبل الناظر في الأعلام ; لتعرف الأرض فضل الغمام ، وتحفظ ما أفيض عليها من الإنعام ، وما هذا شأنه خليق بالنظر فيه ، والوقوف على معانيه بعد حفظ مبانيه .
الحادي عشر : التنبيه على أن تعداد هذه الحروف ممن لم يمارس الخط ، ولم يعان الطريقة على ما قال تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) ( العنكبوت : 48 ) .
الثاني عشر : انحصارها في نصف أسماء حروف المعجم ; لأنها أربعة عشر حرفا على ما سبق تفصيله ، وهذا واضح على من عد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا ، وقال : " لا " مركبة من اللام والألف ، والصحيح أنها تسعة وعشرون حرفا ، والنطق " بلا " في الهجاء كالنطق في " لا رجل في الدار " ; وذلك لأن الواضع جعل كل حرف من حروف المعجم صدر اسمه إلا الألف ، فإنه لما لم يمكن أن يبتدأ به لكونه مطبوعا على السكون فلا يقبل الحركة أصلا توصل إليه باللام ; لأنها شابهته في الاعتداد والانتصاب ، ولذلك يكتب على صورة الألف إلا إذا اتصل بما بعده .
فإن قلت : فقد تقدم اسم الألف في أول حروف الهجاء ، قلت : ذلك اسم الهمزة [ ص: 266 ] لوجهين : أحدهما : أنه صدره ، والثاني أنها صدر ما تصدر من حروف المعجم ; لتكون صورته ثلاثا ، وإنما كانت صدره ; لأن صورتها كالمتكررة أربع مرات ; لأنها تلبس صورة العين وصورة الألف والواو والياء ، لما يعرض من الحركة والسكون ، ولذلك أخروا ما بعد الطاء والظاء والعين ; لأن صورتها ليست متكررة . وجوابه على هذا المذهب أن الحرف لا يمكن تنصيفه ، فيتعين سقوط حرف ; لأنه الأليق بالإيجاز .
الثالث عشر : مجيئها في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف ، فإن قلت : هلا روعي صورتها كما روعي عددها ؟ قلت : عرض لبعضها الثقل لفظا فأهمل .