( فائدة ) قال
الجويني : لا يكاد اللغويون يفرقون بين
nindex.php?page=treesubj&link=28914الإعطاء والإتيان ، وظهر لي بينهما فرق انبنى عليه بلاغة في كتاب الله ، وهو أن الإتيان أقوى من الإعطاء في
[ ص: 75 ] إثبات مفعوله ، لأن الإعطاء له مطاوع ، يقال : أعطاني فعطوت ، ولا يقال في الإيتاء : أتاني ، فأتيت ، وإنما يقال : آتاني ، فأخذت ، والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له ، لأنك تقول : قطعته فانقطع ، فيدل على أن فعل الفاعل كان موقوفا على قبول المحل ، لولاه لما ثبت المفعول ، ولهذا يصح : قطعته فما انقطع ، ولا يصح فيما لا مطاوع له ذلك ، فلا يجوز أن يقال : ضربته ، فانضرب ، أو ما انضرب ، ولا قتلته ، فانقتل ، أو ما انقتل ، لأن هذه الأفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحل ، والفاعل مستقل بالأفعال التي لا مطاوع لها ، فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء .
قال : وقد تفكرت في مواضع من القرآن فوجدت ذلك مراعى ، قال الله تعالى في الملك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=26تؤتي الملك من تشاء ) ( آل عمران : 26 ) لأن الملك شيء عظيم لا يعطيه إلا من له قوة ، ولأن الملك في الملك أثبت من الملك في المالك ، فإن الملك لا يخرج الملك من يده ، وأما المالك فيخرجه بالبيع والهبة .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269يؤتي الحكمة من يشاء ) ( البقرة : 269 ) لأن الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87آتيناك سبعا من المثاني ) ( الحجر : 87 ) لعظم القرآن ، وشأنه . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) ( الكوثر : 1 ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يردون على الحوض ورود النازل على الماء ، ويرتحلون إلى منازل العز والأنهار الجارية في الجنان ، والحوض للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام الكريم ، فقال فيه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك ) لأنه يترك ذلك عن قرب ، وينتقل إلى ما هو أعظم منه .
وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50أعطى كل شيء خلقه ) ( طه : 50 ) لأن من الأشياء ما له وجود في زمان واحد بلفظ الإعطاء ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=5ولسوف يعطيك ربك فترضى ) ( الضحى : 5 ) لأنه تعالى بعد ما يرضي النبي صلى الله عليه وسلم يزيده ، وينتقل به من كل الرضا إلى أعظم ما كان يرجو منه ، لا بل حال أمته كذلك ، فقوله : يعطيك ربك فيه بشارة .
وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حتى يعطوا الجزية عن يد ) ( التوبة : 29 ) لأنها موقوفة على قبول
[ ص: 76 ] منا ، وهم لا يؤتون إيتاء عن طيب قلب ، وإنما هو عن كره ، إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة ، لا يكون كإعطاء الجزية . فانظر إلى هذه اللطيفة الموقفة على سر من أسرار الكتاب
( فَائِدَةٌ ) قَالَ
الْجُوَيْنِيُّ : لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ
nindex.php?page=treesubj&link=28914الْإِعْطَاءِ وَالْإِتْيَانِ ، وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْبَنَى عَلَيْهِ بَلَاغَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي
[ ص: 75 ] إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ ، يُقَالُ : أَعْطَانِي فَعَطَوْتُ ، وَلَا يُقَالُ فِي الْإِيتَاءِ : أَتَانِي ، فَأَتَيْتُ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ : آتَانِي ، فَأَخَذْتُ ، وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ ، لِأَنَّكَ تَقُولُ : قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ ، لَوْلَاهُ لَمَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ ، وَلِهَذَا يَصِحُّ : قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : ضَرَبْتُهُ ، فَانْضَرَبَ ، أَوْ مَا انْضَرَبَ ، وَلَا قَتَلْتُهُ ، فَانْقَتَلَ ، أَوْ مَا انْقَتَلَ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ ، وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا ، فَالْإِيتَاءُ إِذَنْ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ .
قَالَ : وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مُرَاعًى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُلْكِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=26تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ) ( آلِ عِمْرَانَ : 26 ) لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُلْكِ أَثْبَتُ مِنَ الْمِلْكِ فِي الْمَالِكِ ، فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْمُلْكُ مِنْ يَدِهِ ، وَأَمَّا الْمَالِكُ فَيُخْرِجُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) ( الْبَقَرَةِ : 269 ) لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِذَا ثَبَتَتْ فِي الْمَحَلِّ دَامَتْ . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) ( الْحِجْرِ : 87 ) لِعِظَمِ الْقُرْآنِ ، وَشَأْنِهِ . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( الْكَوْثَرِ : 1 ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ يَرِدُونَ عَلَى الْحَوْضِ وُرُودَ النَّازِلِ عَلَى الْمَاءِ ، وَيَرْتَحِلُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ فِي الْجِنَانِ ، وَالْحَوْضُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأُمَّتِهِ عِنْدَ عَطَشِ الْأَكْبَادِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ ، فَقَالَ فِيهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ) لِأَنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ .
وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ) ( طه : 50 ) لِأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا لَهُ وُجُودٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=5وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) ( الضُّحَى : 5 ) لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا يُرْضِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُهُ ، وَيَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ كُلِّ الرِّضَا إِلَى أَعْظَمِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُ ، لَا بَلْ حَالُ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ ، فَقَوْلُهُ : يُعْطِيكَ رَبُّكَ فِيهِ بِشَارَةٌ .
وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ) ( التَّوْبَةِ : 29 ) لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ
[ ص: 76 ] مِنَّا ، وَهُمْ لَا يُؤْتُونَ إِيتَاءً عَنْ طِيبِ قَلْبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ كُرْهٍ ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ لِلزَّكَاةِ بِقُوَّةٍ ، لَا يَكُونُ كَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ . فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ اللَّطِيفَةِ الْمُوقِفَةِ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ