الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6267 - وعن أبي هريرة ، عن النبي قال : أتاكم أهل اليمن هم أرق وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم . متفق عليه .

التالي السابق


6267 - ( وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي قال : " أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة " ) ، أي : من سائر من يأتيكم والرقة ضد القساوة والغلظة والفؤاد القلب ، وقيل : باطنه ، وقيل ظاهره ، والمعنى هم أكثر رقة ورحمة من جهة الباطن . ( " وألين قلوبا " ) أي : أكثر لينة لقبول النصيحة والموعظة من قلوب سائر الناس بحسب الظاهر . قال المظهر : وصف الأفئدة بالرقة والقلوب باللين ، وذلك أنه يقال أن الفؤاد غشاء القلب إذا رق نفذ القول فيه ، وخلص إلى ما وراء ، وإذا غلظ تعذر وصوله إلى داخله ، فإذا صادف القلب لينا علق به ونجع فيه . وقال القاضي : الرقة ضد الغلظة والصفاقة واللين مقابل القساوة ، فاستعيرت في أحوال القلب ، فإذا نبا عن الحق وأعرض عن قبوله ولم يتأثر عن الآيات والنذر ، يوصف بالغلظة ، فكان شغافه صفيقا لا ينفذ فيه الحق وجرمه صلب لا يؤثر فيه الوعظ ، وإذا كان بعكس ذلك يوصف بالرقة واللين فكان حجابه رقيقا لا يأبى نفوذ الحق ، وجوهره لين يتأثر بالنصح ، ثم لما وصفهم بذلك أتبعه ما هو كالنتيجة والغاية بقوله : ( " الإيمان يمان ، والحكمة يمانية " ) ، فإن صفاء القلب ورقته ولين جوهره يؤدي به إلى عرفان الحق والتصدي به ، وهو الإيمان والانقياد لما يوجبه ويقتضيه ، والتيقظ والاتقاء فيما يأتيه ويذره وهو الحكمة ، فتكون قلوبهم معادن الإيمان وينابيع الحكمة ، وهي قلوب منشؤها اليمن نسب إليه الإيمان والحكمة معا لانتسابها إليه تنويها بذكرهما وتعظيما لشأنهما .

وقال الطيبي : يمكن أن يراد بالفؤاد والقلب ما عليه أهل اللغة في كونهما مترادفين فكرر ليناط به معنى غير المعنى السابق ، فإن الرقة مقابلة للغلظة واللين مقابل للشدة والقسوة ، فوصفت أولا بالرقة ليشير إلى التخلق مع الناس وحسن المعاشرة مع الأهل والإخوان . قال تعالى : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وثانيا باللين ليؤذن بأن الآيات النازلة والدلائل المنصوبة ناجعة فيها وصاحبها مقيم على التعظيم لأمر الله ، فقوله : " الإيمان يمان والحكمة يمانية " يشمل حسن المعاملة مع الله تعالى والمعاشرة مع الناس ، فلشدة شكيمة اليهود وعنادهم ، قيل فيهم : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وللين جانب المؤمنين وصفوا بقوله ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله‌ اهـ . وقال شارح : الإيمان يمان هو نسبته إلى اليمن ، والألف فيه عوض عن ياء النسبة فلا يجتمعان . قال أبو عبيدة : مكة من أرض تهامة ، وتهامة من أرض اليمن ، ولهذا سميت مكة وما وليها من أرض الحجاز تهائم ، فمكة على هذا التقدير يمانية ، وفيها ظهر الإيمان . قال : وفيه وجه آخر ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا القول وهو بتبوك ، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن ، فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة ، وقيل : عنى بهذا القول الأنصار لأنهم يمانون وهم نصروا الإيمان والمؤمنين وأووهم ، فنسب إليهم ، وهذه وجوه متقاربة مع ما فيها من بعد التناسب بين الفصل الأول من الكلام والثاني ، فإنه أتاكم أهل اليمن يخاطب بذلك أصحابه ، والجمهور منهم أهل الحرمين وما حولهما ، فعلمنا أن المشير لهم غير المخاطبين ، وقيل : المراد أهل اليمن وينسب إليهم الإيمان إشعارا بكماله فيهم ، والمراد الموجودون منهم في ذلك الزمان لا كل أهل اليمن في جميع الأحيان ، فالمقصود تفضيل أهل اليمن على غيرهم من أهل المشرق ، ويؤيد هذا قوله : " أتاكم أهل اليمن " ثم قوله : " الإيمان يمان " لا ينافي كونه حجازيا ، وإنما ينبي عن استعداد أهل اليمن لقبول ذلك ، وفشوه فيهم واستقرار أمرهم عليه ، فإنهم هم الذين فتحت بأمدادهم الشام والعراق زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم قوله : " والحكمة يمانية " بالتخفيف ، وفي نسخة بالتشديد فقيل : أراد بها الفقه في الدين ، وقيل : كل كلمة صالحة تمنع صاحبها عن الوقوع في الهلكة ، ولما كانت قلوبهم معادن الإيمان وينابيع الحكمة ، وكانت الخصلتان منتهى هممهم نسب الإيمان والحكمة إلى معادن نفوسهم ومساقط رؤوسهم نسبة الشيء إلى مقره ( والفخر ) أي : الافتخار بالمباهاة والمنافسة في الأشياء الخارجة عن نفس الإيمان كالمال والجاه ، ( " والخيلاء " ) : بضم ففتح ممدودة ، وهي التكبر يتخيل أنه أفضل .

[ ص: 4037 ] من غيره ويمنعه عن قبول الحق والانقياد ( " في أصحاب الإبل " ) وفي معناها الخيل ، بل هي أدهى بالويل ، وسيأتي الجمع بينهما في رواية : ( " والسكينة والوقار " ) ، أي : التأني والحلم والأنس ( " في أهل الغنم " ) . قال القاضي : تخصيص الخيلاء بأصحاب الإبل ، والوقار بأهل الغنم يدل على أن مخالطة الحيوان تؤثر في النفس وتعدي إليها هيئات وأخلاقا تناسب طباعها وتلائم أحوالها ، قلت : ولهذا قيل الصحبة تؤثر في النفس ، ولعل هذا أيضا وجه الحكمة في أن كل نبي رعى الغنم ، وخلاصة الكلام ورابطة النظام بين فصول الحديث أن أهل اليمن يغلب عليهم الإيمان والحكمة ، كما أن أهل الإبل يغلب عليهم الفخر ، وأهل الغنم يغلب عليهم السكون ، فمن أراد صحبة أهل الإيمان والعرفان ، فعليه بمصاحبة نحو أهل اليمن على وجه الإيمان قال تعالى : " ؟ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( وفيه إشعار إلى إظهار معجزة ، وهي أنه يظهر في اليمن كثير من الأولياء مع قلة أهله بخلاف سائر الأطراف ، فإنه وإن ظهر منهم الصالحون فهم بالنسبة إلى كثرة خلائقهم قليلون . ( متفق عليه ) . وفي الجامع : " الإيمان يمان " رواه الشيخان عن أبي مسعود ، وروى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا : " أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا ، وأرق أفئدة ، الفقه يمان والحكمة يمانية " .




الخدمات العلمية