الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6275 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم وفي رواية فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا . رواه أبو داود .

التالي السابق


6275 - ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنها " ) ، أي : القصة ( " ستكون هجرة بعد هجرة " ) . قال الشارحون : كان من حق الثانية أن يؤتى بها مع لام العهد ، لأن المراد منها الهجرة الواجبة قبل الفتح ، وإنما أتى بها منكرة لتساوق الأولى في الصيغة مع إضمار في الكلام أي : بعد هجرة حقت ووجبت ، وإنما حسن الحذف اعتمادا على معرفة السامعين ، والمعنى ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة . قال التوربشتي : وذلك حين تكثر الفتن ، ويقل القائمون بأمر الله في البلاد ، ويستولي الكفرة الطغاة على بلاد الإسلام ، ويبقى الشام تسومها العساكر الإسلامية منصورة على من ناوأهم ظاهرين على الحق حتى يقاتلوا الدجال ، فالمهاجر إليها حينئذ فاز بدينه ملتجئ إليها لإصلاح آخرته ، يكثر سواد عباد الله الصالحين القائمين بأمر الله تعالى ، ولعل الحديث إشارة إلى العصر الذي نحن فيه . قال الطيبي : ويمكن أن يراد التكرير كما في قولك : لبيك وسعديك أي : ألبك إلبابا بعد إلباب ، والفاء في قوله : ( " فخيار الناس " ) : يلوح إليه لأنه تفصيل للمجمل ، كأنه قيل : سيحدث للناس مفارقة من الأوطان ، وكل أحد يفارق وطنه إلى آخر ، ويهجره هجرة بعد هجرة ، فخيارهم من يهاجر أو يرغب ( " إلى مهاجر إبراهيم " ) : - عليه السلام - وهو الشام اهـ .

وقوله : إلى مهاجر إبراهيم بفتح الجيم أي : موضع هجرته وإلى مخففة الياء المنقلبة إلى الألف على أنها حرف جر مجرد ، وهو الرواية تتعلق بمحذوف وهو خبر المبتدأ تقديره فخيار الناس المهاجرون إلى مهاجرة ، لأن المهاجر حينئذ فاز بدينه ، وفي بعض النسخ إلي بتشديد الياء على أنها مضافة إلى ياء المتكلم ، فهو متعلق بخيار ، وحينئذ ( مهاجر ) مرفوع على أنه خبر المبتدأ بتقدير حذف المضاف تقديره ، فخيار الناس مهاجر هاجر مهاجر إبراهيم ، فحذف المضاف ، وأعرب المضاف إليه بإعرابه ، والمراد بمهاجر إبراهيم الشام ، فإن إبراهيم لما خرج من العراق مضى إلى الشام .

( وفي رواية : " فخيار أهل الأرض ألزمهم " ) ، أي : أكثرهم لزوما ( " مهاجر إبراهيم " ) - عليه السلام - بفتح الجيم أي : الشام ، فمهاجر بالنصب ظرف ألزم وهو أفعل التفضيل عمل في اسم الظاهر ( " ويبقى في الأرض شرار أهلها " ) ، أي : أهل الأرض من الكفار والفجار ( " تلفظهم " ) : بكسر الفاء أي : ترميهم ( " أرضوهم " ) ، بفتح الراء ، والمعنى ترمي شرار الناس أراضيهم من ناحية إلى ناحية أخرى . قال الشراح : يعني ينتقل من الأراضي التي يستولي عليها الكفرة خيار أهلها ، ويبقى خساس تخلفوا عن المهاجرين رغبة في الدنيا ، ورهبة عن القتال ، وحرصا على ما كان لهم فيها من ضياع ومواش ونحوهما من متاع الدنيا فهم لخسة نفوسهم ، وضعف دينهم كالشيء المسترذل المستقذر عند النفوس الزكية ، وكأن الأرض تستنكف عنهم فتقذفهم ، والله سبحانه يكرههم فيبعدهم من مظان رحمته ، ومحل كرامته ; إبعاد من يستقذر الشيء وينفر عنه طبعه ، فلذلك منعهم من الخروج . وثبطهم قعودا مع أعداء الدين نحو قوله تعالى : ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم فقوله : ( تقذرهم نفس الله ) ، من التمثيلات [ ص: 4041 ] المركبة التي لا طلب لمفرداته ممثلا وممثلا به مثل شابت لمة الليل وقامت الحرب على ساق ، ثم اعلم أن قوله : تقذرهم بفتح الذال المعجمة من قذرت الشيء بالكسر أي : كرهته ، ونفس الله بسكون الفاء أي : ذاته . قال التوربشتي : وهو وإن كان من حيث أنه حصل له مضاف ومضاف إليه يقتضي المغايرة وإثبات شيئين ، لكنه جاز من حيث الاعتبار على سبيل الاتساع تعالى الله عن الإثنوية ومشابهته للمحدثات علوا كبيرا ( تحشرهم النار مع القردة والخنازير ) أي : تلازمهم النار ليلا ونهارا ، وتجمعهم مع الكفرة الذين هم باعتبار صغيرهم وكبيرهم ، كالقردة والخنازير . ( " تبيت " ) ، أي : النار ( " معهم إذا باتوا ، وتقيل " ) : بفتح التاء أي : تضحى وتظل النار ( " معهم إذا قالوا " ) . أي : أضحوا وظلوا ، وهو من القيلولة وهي الاستراحة بالنهار ، فالجملة مستأنفة مبينة لدوام الملازمة .

وقال الطيبي : جملة مؤكدة لما قبلها أو حال منه ، وأما الجمل السابقة فكلها مستأنفة أجوبة للأسئلة المقدرة .

قال المظهر : النار هاهنا الفتنة يعني تحشرهم نار الفتنة التي هي نتيجة أفعالهم القبيحة ، وأقوالهم مع القردة والخنازير ، لكونهم متخلقين بأخلاقهم ، فيظنون أن الفتنة لا تكون إلا في بلدانهم ، فيختارون جلاء أوطانهم ويتركونها ، والفتنة تكون لازمة لهم ، ولا تنفك عنهم حيث يكونون وينزلون ويرحلون . ( رواه أبو داود ) .




الخدمات العلمية