الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1388 - وعن أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من غسل يوم الجمعة واغتسل ، وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام ، واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة عمل سنة : أجر صيامها وقيامها " . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه .

التالي السابق


1388 - ( وعن أوس بن أوس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من غسل " ) : بالتشديد ويخفف أي : ثيابه ، ( " يوم الجمعة " ) قال التوربشتي : روي بالتشديد والتخفيف ، فإن شدد فمعناه : حمل غيره على الغسل بأن يطأ امرأته ، وبه قال عبد الرحمن بن الأسود وهلال ، وهما من التابعين كأن من قال ذلك ذهب إلى أن فيه غضة للبصر ، وصيانة للنفس عن الخواطر التي تمنعه من التوجه إلى الله بالكلية ، وقيل : التشديد فيه للمبالغة دون التعدية ، كما في قطع وكسر ; لأن العرب لهم لمم وشعور ، وفي غسلها كلفة ، فأفرد ذكر غسل الرأس لذلك ، وإليه ذهب مكحول ، وبه قال أبو عبيدة ، وإن خفف فمعناه : إما التأكيد ، وإما غسل الرأس أولا بمثل الخطمي ، ثم الاغتسال للجمعة . ( " واغتسل " ) أي : تغسل بنفسه ، وفي حاشية السيد جمال الدين ، قال زين العرب : غسل بالتشديد قال كثير : إنه المجامعة قبل الخروج إلى الصلاة ; لأنه مجمع غض الطرف في الطريق ، يقال : غسل الرجل امرأته بالتشديد والتخفيف إذا جامعها ، قيل بالتشديد معناه اغتسل بعد الجماع ، ثم اغتسل للجمعة ، فكرر لهذا المعنى ، وقيل : غسل بالغ في غسل الأعضاء سباغا وتثليثا ، وقيل : هما بمعنى كرر للتأكيد .

قال : ( " وبكر وابتكر " ) ، ومنهم من يروي غسل بالتخفيف ، وحينئذ فاغتسل لا يخلو من الزيادة ، ككسب واكتسب ، فأما أن يحمل الأول على الوضوء ، أو الأول على غسل الجمعة ، والثاني على غسل رأسه بالخطمي ونحوه ; لأن من فعل ذلك تكون نظافته أبلغ اهـ .

والأظهر أن الأول يحمل على غسل الرأس ، والثاني على الاغتسال للجمعة . قال الطيبي : وكان الإمام أحمد يذهب إلى الأول ثم رجع إلى التخفيف . قال النووي : والمختار في غسل ما اختاره البيهقي وغيره من المحققين أنه بالتخفيف ، وأن معناه غسل رأسه ، ويؤيده رواية أبي داود : ومن غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل ، وروى أبو داود ، والبيهقي هذا التفسير عن مكحول وغيره . قال البيهقي : وهو بين ما في رواية أبي هريرة ، وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال السيد : وقوله بكر بالتشديد أي : أتى الصلاة في أول وقتها ، وكل من أسرع في شيء فقد بكر إليه أي : في أي وقت كان ; لقوله - عليه الصلاة والسلام : " لا تزال أمتي على سنتي ما بكروا بصلاة المغرب " . قاله الطيبي : وابتكر معناه : أدرك أول الخطبة ، وأول كل شيء باكورته ، وابتكر إذا أتى باكورة الفاكهة .

[ ص: 1035 ] قال التوربشتي : هذا قول أبي عبيدة . وقال ابن الأنباري : بكر : تصدق قبل خروجه ، يتأول على ما روي في الحديث : " باكروا بالصدقة ; فإن البلاء لا يتخطاها " ، وتابعه الخطابي . وأرى نقل أبي عبيدة أولى بالتقديم ; لمطابقته أصول اللغة ، ويشهد لصحته تنسيق الكلام ; فإنه حث على التبكير ، ثم الابتكار ، فإن الإنسان يغدو إلى المسجد أولا ثم يستمع الخطبة ثانيا . اهـ كلام التوربشتي .

قلت : دعوى شهادة تنسيق الكلام لصحة قول أبي عبيدة منه ممنوع ، بل هو يشهد لما قاله ابن الأنباري ; فإنه حث على التبكير ( " ومشى ولم يركب " ) وأما حمله على مباكرة الصدقة فأمر خارج عن النسق ، وقول التوربشتي : لمطابقته أصول اللغة ، أفاد أن قول ابن الأنباري غير موافق لمواد اللغة ، وهو كذلك لأن مادة بكر لم تجئ بمعنى تصدق ، وليس في الحديث الذي ذكره دلالة عليه بحسب اللفظ أصلا ، وإنما هو تقوية لأصل المعنى الذي أراده فتأمل فإنه لا يخلو عن خطل .

وأما قول ابن حجر : بكر بالتخفيف أي : خرج من بيته باكرا فمخالف للأصول المصححة ، ولكتب اللغة ، ففي القاموس بكر عليه وإليه وفيه بكورا ، وبكر وابتكر وأبكر وباكره : أتاه بكرة اهـ . وفيه دلالة على أن بكر بالتخفيف لا يستعمل إلا بإحدى حروف الجر المذكورة ، نعم قيل بكر مبالغة بكر بالتخفيف من البكور على ما ذكره الطيبي ، وأما ما قيل : هما بمعنى ، جمع بينهما تأكيدا فهو استرواح ، وأما الجمع بين قوله : " ومشى ولم يركب " ، فقيل : هما بمعنى ، جمع بينهما تأكيدا . وقال النووي : المختار أن قوله : ولم يركب أفاد دفع توهم حمل المشي على المضي ولو راكبا ، ونفي احتمال أن يراد بالمشي ولو في بعض الطريق أولا ، ثم التصديق ثانيا ، ثم بالمشي والدنو من الإمام . تم كلامه .

أقول : هذا تزييف ضعيف ; فإن المراد بنسق الكلام تتابعه من السباق واللحاق ، وتناسبه من معنى الوفاق فما قبله من قوله : وغسل واغتسل من باب واحد من التأكيد الحقيقي ، أو التغاير الاعتباري ، وكذلك بعده من قوله : ( " ودنا " ) أي : قرب ( " من الإمام " ) أي : الخطيب ( " واستمع " ) أي : ما يلقي إليه من الكلام ( " ولم يلغ " ) : بضم الغين أي : بالكلام مع الأنام ، وبالفعل العبث من أفعال العوام ، ( " كان له بكل خطوة " ) : بفتح الخاء وتضم ( " عمل سنة " ) أي : ثواب أعمالها ( " أجر صيامها وقيامها " ) : بدل من : " عمل سنة " ( رواه الترمذي وقال : حسن ) . وقال النووي : إسناده جيد ، نقله ميرك . ( وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ) قال ميرك ، والحاكم ، وقال : صحيح . قال ابن حجر : ورواه أحمد ، وصححه ابن حبان والحاكم وقال : إنه على شرط الشيخين . قال بعض الأئمة : لم نسمع من الشريعة حديثا صحيحا مشتملا على مثل هذا الثواب أي : فيتأكد العمل لينال الأمل .




الخدمات العلمية