الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

1790 - عن أبي هريرة قال : لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها ، قال عمر : فوالله ما هو إلا رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق . متفق عليه .

التالي السابق


( الفصل الثالث )

1790 - ( عن أبي هريرة قال : لما توفي ) بصيغة المفعول أي مات ( النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر ) بصيغة المفعول على الصحيح أي جعل خليفة ( بعده ) أي بعد وفاته ( وكفر من كفر ) إما تغليظ أو لأنهم أنكروا وجوب الزكاة ، وإنكار وجوب المجمع عليه ، إذا كان معلوما من الدين بالضرورة كفر اتفاقا ; بل قال جماعة : إن إنكار المجمع عليه كفر ، وإن لم يكن معلوما أو المعنى قاربوا الكفر أو شابهوا الكفار ، أو أراد كفران النعمة ( من العرب ) قال الطيبي : يريد غطفان وفزارة وبني سليم وغيرهم ، منعوا الزكاة فأراد أبو بكر أن يقاتلهم فاعترض عمر بقوله الآتي ، وأبو بكر جعلهم كفارا لأنهم أنكروا وجوب الزكاة ، أو أتوا بشبهة في المنع ، فيكون تغليظا ، وعمر أجراه على ظاهره ، وأنكر على أبي بكر . اهـ ، ويدل على الثاني ما روي أنهم قالوا : إنما كنا نؤدي زكاتنا لمن كانت صلاته سكنا لنا ، والآن قد ذهب بوفاته - عليه السلام - فلا نؤديها لغيره ، أي لما أن عزم على قتالهم ( قال عمر بن الخطاب لأبى بكر - رضي الله عنهما - : كيف تقاتل الناس ) أي من أهل الإيمان ( وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) كناية عن الإسلام أو المراد بالناس المشركون ( فمن قال لا إله إلا الله ) يعني كلمة التوحيد وهي لا الله إلا الله محمد رسول الله للإجماع على أنه لا يعتد بتلك وحدها ( عصم ) بفتح الصاد أي حفظ ومنع ( مني ) أي من تعرضي أنا ومن اتبعني ( ماله ونفسه إلا بحقه ) أي بحق الإسلام كما في رواية ، قال الطيبي : أي لا يحل لأحد أن يعترض لماله ونفسه بوجه من الوجوه ، إلا بحقه أي بحق هذا القول أو بحق أحد المذكورين [ ص: 1277 ] ( وحسابه ) أي جزاؤه ومحاسبته ( على الله ) بأنه مخلص أم لا ، قال الطيبي : يعني من قال لا إله إلا الله وأظهر الإسلام نترك مقاتلته ، ولا نفتش باطنه ، هل هو مخلص أم لا ؟ فإن ذلك إلى الله - تعالى - وحسابه عليه ( فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق ) بالتشديد والتخفيف ( بين الصلاة والزكاة ) أي المقرونتين في القرآن ، أو الموجودتين في حديث آخر ، حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وهذا أظهر في استدلال أبي بكر ( فإن الزكاة حق المال ) أي كما أن الصلاة حق النفس قاله الطيبي ، وقال غيره : يعني الحق المذكور في قوله " إلا بحقه " أعم من المال ، وغيره ، قال الطيبي : كأن عمر حمل قوله بحقه على غير الزكاة ، فلذلك صح استدلاله بالحديث ، فأجاب أبو بكر بأنه شامل للزكاة أيضا ، أو توهم عمر أن القتال للكفر ، فأجاب بأنه لمنع الزكاة لا للكفر اهـ ، ولا مستدل للشافعية فيه بأن تارك الصلاة يقتل فإن الفرق ظاهر بينه وبين القتال لقوم تركوا شعار الإسلام بترك ركن من أركانه ، ألا ترى أن الإمام محمدا من أصحابنا جوز القتال لقوم تركوا الأذان فضلا عن الأركان ، والله المستعان .

قال ابن الهمام : ظاهر قوله - تعالى - خذ من أموالهم صدقة الآية يوجب حق أخذ الزكاة مطلقا للإمام ، وعلى هذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتان بعده ، فلما ولي عثمان وظهر تغير الناس كره أن يفتش السعاة على الناس مستور أموالهم ففوض الدفع إلى الملاك نيابة عنه ، ولم يختلف الصحابة في ذلك ، وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلا ، ولهذا لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها ( والله لو منعوني ) أي بالمنعة والغلبة ( عناقا ) بفتح العين أي الأنثى لم تبلغ ستة من ولد المعز ، وذكرها مبالغة ، قال النووي في رواية : عقالا ، وذكروا فيه وجوها : أصحها وأقواها قول صاحب التحرير أنه ورد مبالغة ، لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد ، فيقتضي قلة وحقارة ، فاندفع ما قاله ابن حجر : من قوله : ودليل وجوبها في الصغار قول أبي بكر - رضي الله عنه - : والله لو منعوني عناقا ، ووافقه عليه الصحابة ، فكان إجماعا ، فقال ابن الهمام : يدل على نفيه ما في أبي داود والنسائي عن سويد بن غفلة قال : أتاني مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول في ، يعني كتابي أن لا آخذ راضع لبن . . الحديث ، قال : وحديث أبي بكر لا يعارضه لأن أخذ العناق لا يستلزم الأخذ من الصغار ، لأن ظاهر ما قدمناه في حديث " في صدقة الغنم " أن العناق يقال على الجزعة والثنية ، ولو مجازا ، فارجع إليه ، فيجب الحمل عليه دفعا للتعارض ، ولو سلم جاز أخذها بطريق القيمة لا أنها هي نفس الواجب ، ونحن نقول به ، أو هو على طريق المبالغة لا التحقيق ، يدل عليه أن في الرواية الأخرى عقالا مكان عناقا ( كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها ) أي على ترك منعها أو لأجل منعها ، ولا دلالة في الحديث أصلا على ما قاله الشافعية أخذا من الحديث من أنه يجب على الإمام أخذ الزكاة من مانعيها قهرا عليهم ، لأن الحديث إنما هو في قتال من منع الزكاة لإنكارها أو شبهة في وجوبها ، حتى يرجع إلى الحق ، وأما من انقاد إلى أحكام الإسلام من الصلاة والزكاة ونحوها فحسابه على الله في فعلها ، وتركها ، مع أنه لا بد من اعتبار النية في العبادة ، وهي غير صحيحة في المقهور ( قال عمر : فوالله ما هو ) أي الشأن ( إلا رأيت ) أي علمت ( أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال ) وفتح قلبه بالإلهام غيرة على أحكام الإسلام ( فعرفت أنه ) أي رأى أبا بكر أو القتال ( هو الحق ) وهذا إنصاف منه - رضي الله عنه - ورجوع إلى الحق عند ظهوره ، مع أنه مظهر نطق الحق ، ومنبع عين الصدق ، وهذا يظهر كمال الصديق ، والفرق بينه وبين الفاروق ، حيث سلك الصديق طريق التدقيق وسبيل التحقيق ، على وفق التوفيق ، قال الطيبي : المستثنى منه غير مذكور ، أي ليس الأمر شيئا من الأشياء إلا علم بأن أبا بكر محق ، فهذا الضمير يفسره ما بعده نحو قوله - تعالى - إن هي إلا حياتنا الدنيا ( متفق عليه ) .

[ ص: 1278 ]



الخدمات العلمية