الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3828 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم . رواه الترمذي . وزاد النسائي في أخرى : ( في منخري مسلم أبدا . وفي أخرى : ( في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا ) .

التالي السابق


3828 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يلج النار ) ; أي لا يدخلها ( من بكى من خشية الله ) : فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية ( حتى يعود اللبن في الضرع ) : هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى : ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ( ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم ) : فكأنهما ضدان لا يجتمعان كما أن الدنيا والآخرة نقيضان ( رواه الترمذي ) : وكذا النسائي ، وابن ماجه ( وزاد النسائي في أخرى ) : أي في رواية أخرى ( في منخري مسلم ) : بفتح الميم وكسر الخاء وهو الأصح الأفصح ، ففي الصحاح : المنخر ثقب الأنف وقد تكسر الميم اتباعا لكسرة الخاء ، وفي القاموس : المنخر بفتح الميم والخاء وبكسرهما وضمهما وكمجلس خرق الأنف ، وفي الضياء : حقيقته موضع النخر وهو مد النفس في الخياشيم ، والمعنى لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم في خرقي أنف مسلم ( أبدا ) : أي في زمان من الأزمان ( وفي أخرى له ) : أي في رواية أخرى للنسائي ( في جوف عبد أبدا ) : أي حيث دخل فيه الغبار ، فيمتنع دخول الدخان عليه ، لأن الاجتماع في حيز الامتناع ( ولا يجتمع الشح ) : أي البخل الذي يوجب منع الواجب ، أو يجر إلى ظلم العباد ( والإيمان ) : أي الكامل ( في قلب عبد أبدا ) : الكشاف : الشح بالضم والكسر اللوم ، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، وقد أضيف إلى النفس في قوله تعالى : ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ; لأنه غريزة فيها ، ولذا قال تعالى : ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) وقال - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل إنه من الآيات المنسوخة : " لوكان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب " ، وأما البخل فهو المنع نفسه . قال الطيبي : فإذن البخل أعم ; لأنه قد يوجد البخل ولا شح ثمة ولا ينعكس ، وعليه ما ورد في شرح السنة : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال : ما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : ( ومن يوق شح نفسه ) ; أي يحفظ ( فأولئك هم المفلحون ) وأنا رجل شحيح لا يكاد أن يخرج من يدي شيء ، فقال ابن مسعود : ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل وقال ابن جبير : إدخال الحرام ومنع الزكاة ، وروينا عن مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم " .

واعلم أن حقيقة الإنسان على ما أشار إليه شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي عبارة عن روح ونفس وقلب ، وإنما سمي القلب قلبا ; لأنه تارة يميل إلى الروح ويتصف بصفتها فيتنور ويفلح ، وأخرى إلى النفس [ ص: 2479 ] فيصير مظلما ، فإذا اتصف بصفة الروح تنور ، وكان مقرا للإيمان والعمل الصالح ففاز وأفلح . قال تعالى : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) وإذا اتصف بصفة النفس أظلم وكان مقرا للشح الهالع فخاب وخسر ولم يفلح . قال تعالى : ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) فأنى يجتمعان في قلب واحد اه . والمعنى أنهما لا يجتمعان في قلب واحد على وجه الكمال ، فإن المخلط يميل قلبه إلى الروح تارة فتزول عنه الخصائل الذميمة ، وقد يميل إلى النفس فيعود إليها الأحوال الدينية ، وقد يكون في آن واحد له جولان وميلان إلى الطرفين ، كجولان المرأة إلى الجانبين ، فينطع وينعكس فيها من كل من الحالين وإليه الإشارة بما ورد في الحديث ، من أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . رواه الترمذي وغيره ، وفي رواية أحمد : مثل القلوب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا لبطن ، وهذا أمر مشاهد لأرباب الشهود ، ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " وفي حديث آخر : لا تكلني إلى نفسي طرفة فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة ، ومن أراد الاستقصاء فعليه بالأحياء .




الخدمات العلمية