الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ الخلاف في الاحتجاج بالمرسل ] ( واحتج ) الإمام ( مالك ) هو ابن أنس في المشهور عنه و ( كذا ) الإمام أبو حنيفة ( النعمان ) بن ثابت ( وتابعوهما ) المقلدون لهما ، والمراد الجمهور من الطائفتين ، بل وجماعة من المحدثين ، والإمام أحمد في رواية حكاها النووي وابن القيم وابن كثير وغيرهم ( به ) أي : بالمرسل ( ودانوا ) بمضمونه ، أي : جعل كل واحد منهم ما هو عنده مرسل دينا يدين به في الأحكام وغيرها ، وحكاه النووي في شرح المهذب عن كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ، قال : ونقله الغزالي عن الجماهير .

وقال أبو داود في رسالته : وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ومالك ، وتابعه عليه أحمد وغيره . انتهى .

وكان من لم يذكر أحمد في هذا الفريق رأى ما في الرسالة أقوى ، مع ملاحظة صنيعه في العلل ، كما سيأتي قريبا ، وكونه يعمل بالضعيف الذي يندرج فيه [ ص: 176 ] المرسل ، فذاك إذا لم يجد في الباب غيره كما تقدم ، ثم اختلفوا أهو أعلى من المسند ، أو دونه ، أو مثله ؟ وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض .

والذي ذهب إليه أحمد ، وأكثر المالكية ، والمحققون من الحنفية - كالطحاوي وأبي بكر الرازي - تقديم المسند .

قال ابن عبد البر : وشبهوا ذلك بالشهود ، يكون بعضهم أفضل حالا من بعض ، وأقعد وأتم معرفة ، وإن كان الكل عدولا جائزي الشهادة . انتهى .

والقائلون بأنه أعلى وأرجح من المسند ، وجهوه بأن من أسند ، فقد أحالك على إسناده والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم ، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته ، فقد قطع لك بصحته ، وكفاك النظر فيه ، ومحل الخلاف فيما قيل : إذا لم ينضم إلى الإرسال ضعف في بعض رواته ، وإلا فهو حينئذ أسوأ حالا من مسند ضعيف جزما .

ولذا قيل : إنهم اتفقوا على اشتراط ثقة المرسل ، وكونه لا يرسل إلا عن الثقات ، قاله ابن عبد البر ، وكذا أبو الوليد الباجي من المالكية ، وأبو بكر الرازي من الحنفية .

وعبارة الثاني : لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل ، إذا كان مرسله غير متحرز ، بل يرسل عن غير الثقات أيضا ، وأما الأول فقال : لم تزل الأئمة يحتجون بالمرسل ، إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ، ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء .

وممن اعتبر ذلك من مخالفيهم الشافعي ، فجعله شرطا في المرسل المعتضد ، ولكن قد توقف شيخنا في صحة نقل الاتفاق من الطرفين قبولا وردا ، قال : لكن ذلك فيهما عن جمهورهم مشهور . انتهى .

[ ص: 177 ] وفي كلام الطحاوي ما يومئ إلى احتياج المرسل ونحوه إلى الاحتفاف بقرينة ; وذلك أنه قال - في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه سئل : كان عبد الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال : لا - ما نصه : فإن قيل هذا منقطع ; لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا .

يقال : نحن لم نحتج به من هذه الجهة ، إنما احتججنا به ; لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم ، وموضعه من عبد الله ، وخلطته بخاصته من بعده - لا يخفى عليه مثل هذا من أموره ، فجعلنا قوله حجة لهذا ، لا من الطريق التي وصفت .

ونحوه قول الشافعي رحمه الله في حديث لطاوس عن معاذ : طاوس لم يلق معاذا ، لكنه عالم بأمر معاذ ، وإن لم يلقه ; لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ ، وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافا ، وتبعه البيهقي وغيره .

ومن الحجج لهذا القول : أن احتمال الضعف في الواسطة ; حيث كان المرسل تابعيا لا سيما بالكذب بعيد جدا ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى على عصر التابعين ، وشهد له بعد الصحابة بالخيرية ، ثم للقرنين - كما تقدم - بحيث استدل بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة ، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل فإرسال التابعي ، بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة الحديث بالجزم من غير وثوق بمن قاله - مناف لها ، هذا مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل .

وأوسع من هذا قول عمر - رضي الله عنه - : المسلمون عدول ، بعضهم على بعض ، إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو قرابة .

[ ص: 178 ] قالوا : فاكتفى - رضي الله عنه - بظاهر الإسلام في القبول ، إلا أن يعلم منه خلاف العدالة ، ولو لم يكن الواسطة من هذا القبيل ، لما أرسل عنه التابعي ، والأصل قبول خبره حتى يثبت عنه ما يقتضي الرد .

وكذا ألزم بعضهم المانعين بأن مقتضى الحكم لتعاليق البخاري المجزومة بالصحة إلى من علق عنه - أن من يجزم من أئمة التابعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث يستلزم صحته من باب أولى ، لا سيما وقد قيل : إن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف ، لما حذفه ، فكأنه عدله .

ويمكن إلزامهم أيضا بأن مقتضى تصحيحهم في قول التابعي : " من السنة " وقفه على الصحابي - حمل قول التابعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على أن المحدث له بذلك صحابي ; تحسينا للظن به ، في حجج يطول إيرادها ، لاستلزامه التعرض للرد ، مع كون جامع التحصيل في هذه المسألة للعلائي متكفلا بذلك كله ، وكذا صنف فيها ابن عبد الهادي جزءا .

( ورده ) أي : الاحتجاج بالمرسل ( جماهر ) بحذف الياء تخفيفا جمع جمهور ; أي : معظم ( النقاد ) من المحدثين ; كالشافعي وأحمد [ وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين ] ، وحكموا بضعفه ( للجهل بالساقط في الإسناد ) ; فإنه يحتمل أن يكون تابعيا لعدم تقيدهم بالرواية عن الصحابة ، ثم يحتمل أن يكون ضعيفا ; لعدم تقيدهم بالثقات ، وعلى تقدير كونه ثقة يحتمل أن يكون روى عن تابعي أيضا يحتمل أن يكون ضعيفا ، وهلم جرا إلى ستة أو سبعة ، فهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض ، واجتماع ستة في حديث يتعلق بسورة الإخلاص .

( وصاحب التمهيد ) وهو أبو عمر بن عبد البر ( عنهم ) يعني المحدثين ( نقله ) ، بل حكى الإجماع على طلب عدالة المخبر ( ومسلم ) وهو ابن الحجاج ( صدر الكتاب ) الشهير الذي صنفه في الصحيح ( أصله ) أي : رد الاحتجاج به ، فإنه قال في أثناء كلام ذكره في مقدمة الصحيح على وجه الإيراد على لسان [ ص: 179 ] خصمه : والمرسل من الروايات في أصل قولنا ، وقول أهل العلم بالأخبار - ليس بحجة . وأقره ومشى عليه في كتابه .

[ وكذا أحمد في العلل ] حيث يعل الطريق المسندة بالطريق المرسلة ، ولو كان المرسل عنده حجة لازمة ، لما أعل به ، ويكفينا نقل صاحبه أبي داود أنه تبع فيه الشافعي ، كما تقدم .

وكذا حكي عن مالك ، وهو غريب ، فالمشهور عنه الأول ، وممن حكى الثاني عن مالك الحاكم ، وقال النووي في شرح المهذب : المرسل لا يحتج به عندنا ، وعند جمهور المحدثين ، وجماعة من الفقهاء ، وجماهير أصحاب الأصول والنظر .

قال : وحكاه الحاكم أبو عبد الله عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث والفقهاء . انتهى .

وبسعيد يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين ، وابن الحاجب من المتأخرين ادعاؤهما إجماع التابعين على قبوله ; إذ هو من كبارهم ، مع أنه لم ينفرد من بينهم بذلك ، بل قال به منهم ابن سيرين والزهري .

وغايته أنهم غير متفقين على مذهب واحد ، كاختلاف من بعدهم ، ثم إن ما أشعر به كلام أبي داود في كون الشافعي أول من ترك الاحتجاج به - ليس على ظاهره ، بل هو قول ابن مهدي ، ويحيى القطان ، وغير واحد ممن قبل الشافعي ، ويمكن أن اختصاص الشافعي لمزيد التحقيق فيه .

وبالجملة فالمشهور عن أهل الحديث خاصة القول بعدم صحته ، بل هو قول جمهور الشافعية ، واختيار إسماعيل القاضي ، وابن عبد البر ، وغيرهما من المالكية ، [ ص: 180 ] والقاضي أبي بكر بن الباقلاني ، وجماعة كثيرين من أئمة الأصول .

وبالغ بعضهم في التضييق ، فرد مراسيل الصحابة ، كما بالغ من توسع من أهل الطرف الآخر ، فقبل مراسيل أهل هذه الأعصار وما قبلها ، وبينا هناك رده ، وسنبين رد الآخر آخر الباب ، وما أوردته من حجج الأولين مردود .

أما الحديث فمحمول على الغالب والأكثرية ، وإلا فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذمومة ، لكن بقلة ; بخلاف من بعد القرون الثلاثة ; فإن ذلك كثر فيهم واشتهر .

وقد روى الشافعي عن عمه : ثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : إني لأسمع الحديث أستحسنه ، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به ، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به ، فقد حدث به عمن أثق به ، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به .

وهذا - كما قال ابن عبد البر - : يدل على أن ذلك الزمان - أي : زمان الصحابة والتابعين - كان يحدث فيه الثقة وغيره .

ونحوه ما أخرجه العقيلي من حديث ابن عون ، قال : ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثا عن أبي قلابة ، فقال : أبو قلابة رجل صالح ، ولكن عمن ذكره أبو قلابة .

ومن حديث عمران بن حدير أن رجلا حدثه عن سليمان التيمي عن محمد بن سيرين : " أن من زار قبرا أو صلى إليه ، فقد برئ الله منه " .

قال عمران : فقلت لمحمد عن أبي مجلز : إن رجلا ذكر عنك كذا ، فقال أبو مجلز : كنت أحسبك يا أبا بكر [ ص: 181 ] أشد اتقاء ، فإذا لقيت صاحبك ، فأقرئه السلام وأخبره أنه كذب .

قال : ثم رأيت سليمان عند أبي مجلز ، فذكرت ذلك له ، فقال : سبحان الله ، إنما حدثنيه مؤذن لنا ، ولم أظنه يكذب . فإن هذا والذي قبله فيهما رد أيضا على من يزعم أن المراسيل لم تزل مقبولة معمولا بها .

ومثل هذه حديث عاصم عن ابن سيرين قال : كانوا لا يسألون عن الإسناد ، حتى وقعت الفتنة بعد ، وأعلى من ذلك ما رويناه في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعدما تاب : إن هذه الأحاديث دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فإنا كنا إذا هوينا أمرا ، صيرناه حديثا . انتهى .

ولذا قال شيخنا : إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل ; إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام ، والصحابة متوافرون ، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم ، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرا ، جعلوه حديثا وأشاعوه ، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ، ولم يذكر من حدثه به ; تحسينا للظن ، فيحمله عنه غيره ، ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع ، فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

وأما الإلزام بتعاليق البخاري ، فهو قد علم شرطه في الرجال ، وتقيده بالصحة ، بخلاف التابعين ، وأما ما بعده ، فالتعديل المحقق في المبهم لا يكفي على المعتمد ، كما سيأتي في سادس فروع من تقبل روايته ، فكيف باسترسال إلى هذا الحد .

[ ص: 182 ] نعم قد قال ابن كثير : المبهم الذي لم يسم ، أو سمي ولم تعرف عينه - لا يقبل روايته أحد علمناه ، ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لها بالخير ، فإنه يستأنس بروايته ، ويستضاء بها في مواطن ، وقد وقع في مسند أحمد وغيره من هذا القبيل كثير ، وكذا يمكن الانفصال عن الأخير ; بأن الموقوف لا انحصار له فيما اتصل ، بخلاف المحتج به .

وبهذا وغيره مما لم نطل بإيراده قويت الحجة في رد المرسل ، وإدراجه في جملة الضعيف ( لكن إذا صح ) يعني ثبت ( لنا ) أهل الحديث ، خصوصا الشافعية ، تبعا لنص إمامهم ( مخرجه ) أي : اتصال المرسل ( بمسند ) يجيء من وجه آخر صحيح أو حسن أو ضعيف يعتضد به .

( أو ) بـ ( مرسل ) آخر ( يخرجه ) أي : يرسله ( من ليس يروي عن رجال ) أي : شيوخ راوي المرسل ( الأول ) حتى يغلب على الظن عدم اتحادهما ( نقبله ) بالجزم جوابا لإذا الشرطية ; كما صرح ابن مالك في التسهيل بجوازه في قليل من الكلام ، وهو ظاهر كلام ابنه الشارح ، ولكن نصوص مشاهير النحاة على اختصاصه بضرورة الشعر ، على أنه لو قال : " متى " بدل " إذا " ، و " يقبل " بدل " نقبله " - كما قال شيخنا - لكان أحسن ، وكذا يعتضد بما ذكره مع هذين الشافعيين - كما سيأتي - من موافقة قول بعض الصحابة ، أو فتوى عوام أهل العلم ، مع كون الاعتضاد بها في الترتيب هكذا .

وقد نظم الزائد بعض الآخذين عن الناظم فقال : أو كان قول واحد من صحب خير الأنام عجم وعرب [ ص: 183 ] أو كان فتوى جل أهل العلم وشيخنا أهمله في النظم .

التالي السابق


الخدمات العلمية