( قلت : الشيخ ) ( لم يفصل ) في المرسل المعتضد بين كبار التابعين وصغارهم ، بل أطلق كما ترى ، وكأنه بناء على المشهور في تعريفه كما تقدم ( ابن الصلاح ) الذي اعتمد والشافعي مقاله في ذلك ( بالكبار منهم قيدا ) المعتضد ، وتبع ابن الصلاح في الإطلاق ابن الصلاح النووي في عامة كتبه .
ثم تنبه للتقييد في شرحه للوسيط وهو من أواخر تصنيفه ; فإنه قال فيه : وأما الحديث المرسل فليس بحجة عندنا ، إلا أن كان يرى الشافعي ، بشرط أن يعتضد بأحد أمور أربعة ، وذكرها . الاحتجاج بمرسل الكبار من التابعين
وكذا قيده بـ ( من روى ) منهم ( عن الثقات أبدا ) ; بحيث إذا عين شيخه في مرسله في رواية أخرى ، أو في مطلق حديثه حسب ما يحتملها كلام الشافعي الآتي : لا يسمى مجهولا ، ولا مرغوبا عن الرواية عنه ، ولا يكفي قوله : ( إنه لم يكن يأخذ إلا عن الثقات ) كما جاء عن الشافعي وغيره . سعيد بن المسيب
فالتوثيق مع الإبهام لا يكفي - على ما سيأتي - نعم قد قال في الشافعي سعيد بخصوصه : إنه ما عرفه روى إلا عن ثقة ، وأجاب بذلك من عارضه في قبول مراسيله خاصة ، بل وزاد : أنه لا يحفظ له منقطعا إلا وجد ما يدل على تسديده .
ولهذا قال عقب العاضد بمجيئه من وجه آخر : ولهذا احتج ابن الصلاح بمرسلات الشافعي سعيد ; فإنها وجدت مسانيد من وجوه أخر . قال : ولا يختص ذلك عنده بإرسال . انتهى . ابن المسيب
[ ص: 184 ] وتبعه أحمد ، فنقل الميموني وحنبل معا عنه أنه قال : مراسيل سعيد صحاح ، لا نرى أصح من مرسلاته .
وقال : هي أحب إلي من مرسلات ابن معين الحسن ، ولكن قد قال النووي في الإرشاد : اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند ، حتى إن كثيرا منهم لا يعرفون غير ذلك ، وليس الأمر على ذلك ، ثم بينه بما ذكر معناه في شرح المهذب ; فإنه قال فيه - عقب نقله عن الشافعي في المختصر . الشافعي
مما رواه عنه الربيع أيضا : إرسال عندنا حسن - ما نصه : اختلف أصحابنا المتقدمون في معناه على وجهين ، حكاهما الشيخ ابن المسيب أبو إسحاق في اللمع ، والخطيب في كتابيه الفقيه والمتفقه والكفاية وآخرون .
أحدهما : أنها حجة عنده ، بخلاف غيرها من المراسيل ، قالوا : لأنها فتشت فوجدت مسندة .
ثانيهما : أنها ليست بحجة عنده ، بل هي كغيرها على ما ذكرناه ، قالوا : وإنما رجح بمرسله ، والترجيح بالمرسل جائز . الشافعي
قال الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه : والصواب الثاني ، وأما الأول ، فليس بشيء ، وكذا قال في الكفاية : إن الثاني هو الصحيح ; لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد بحال من وجه يصح .
قال البيهقي : وقد ذكرنا لابن المسيب مراسيل لم يقبلها حين لم ينضم إليها ما يؤكدها ، ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها . الشافعي
قال : وزيادة [ ص: 185 ] في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ . ابن المسيب
قال أي : النووي : وأما قول في أول كتابه شرح التلخيص قال القفال المروزي في " الرهن الصغير " : مرسل الشافعي سعيد عندنا حجة - فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين .
[ إذا علم هذا ، فلم ينفرد سعيد بهذا الوصف فقط ، قال أبو داود في سننه : سمعت يقول : سمعت محمد بن حميد يقول ] : كل شيء حدثتك عن يعقوب بن عبد الله القمي جعفر ، عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مسند عن سعيد بن جبير ، [ ولكن هذا خاص . ابن عباس
ونحوه قول المحكي قبيل المرسل ] ، ( و ) قيده أيضا بـ ( من إذا شارك ) منهم ( أهل الحفظ ) في أحاديثهم ( وافقهم ) فيها ولم يخالفهم ( إلا بنقص لفظ ) [ الحفاظ بكلمة فأزيد مما ] لا يختل معه المعنى ; فإن ذلك لا يضر في قبول مرسله ، وكل من هذه - أعني روايته عن الثقات ، وموافقة الحفاظ ، وكونه من الكبار - صفة للمرسل بكسر المهملة ، دالة على صحة مرسله المروي عنه . ابن سيرين
وثانيها : جار في كل راو أرسل أو أسند ، كما قيل : إن المحتج بالمرسل أيضا يشترط أولها ، كما تقدم مع النزاع فيه .
وهذا سياق نص ; ليعلم أن الشارح وغيره ممن أورده أخل منه [ ص: 186 ] بأشياء مهمة . الشافعي
فروى البيهقي في المدخل عن شيخه الحاكم عن الأصم عن الربيع عنه أنه قال : والمنقطع مختلف ، فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين ، فحدث حديثا منقطعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر عليه بأمور : منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث ، فإن شركه الحفاظ المأمونون ، فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه ، وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده ، قبل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذين قبل عنهم ، فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله ، وهي أضعف من الأولى ، وإن لم يوجد ذلك ، نظر إلى بعض ما يروي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا له ، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله .
وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه ، لم يسم مجهولا ، ولا مرغوبا عن الرواية عنه ، فيستدل بذلك على صحته فيما يروي عنه ، ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه ، فإن خالفه ووجد حديثه أنقص ، كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه .
ومتى خالف ما وصفت ، أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله .
قال : وإذا وجدت الدلائل لصحة حديثه بما وصفت ، أحببنا - يعني اخترنا - كما قاله البيهقي - أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمؤتصل ; وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي وإن بعض المنقطعات ، وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حديث من لو سمي لم يقبل .
وإن قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه لو وافقه ، لم يدل على صحة مخرج الحديث [ ص: 187 ] دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقه ، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه بعض الفقهاء .
قال : فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم منهم واحدا يقبل مرسله ; لأمور : أحدها : أنهم أشد تجوزا فيمن يروون عنه ، والآخر : أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه ، والآخر : كثرة الإحالة للأخبار ، وإذا كثرت الإحالة ، كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه .
وكذا رواه الخطيب في الكفاية من طريق أحمد بن موسى الجوهري ، ومحمد بن حمدان الطرائفي ، كلاهما عن الربيع به بزيادة قوله في أواخره : عن التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض الصحابة ، فليس عند البيهقي ، وهو يفيد فائدة جليلة .
وقد زاد بعضهم : مما يعتضد به المرسل : فعل صحابي ، أو انتشارا ، أو عمل أهل العصر ، أو قياسا معتبرا .
ويمكن رجوعها إلى كلام بتكلف في بعضها ، ثم إن ما تقدم عن الشافعي من عدم الاحتجاج بالمرسل إلا إن اعتضد - هو المعتمد ، وإن زعم الشافعي الماوردي أنه في الجديد يحتج بالمرسل إذا لم يوجد دليل سواه ، وكذا نقله غيره ، فلقد رده ابن السمعاني بإجماع النقلة من العراقيين والخراسانيين للمسألة عنه على أنه عنده غير حجة .
نعم قال التاج السبكي ما معناه : إنه إذا دل على محظور ولم يوجد سواه ، [ ص: 188 ] فالأظهر وجوب الانكفاف ; يعني احتياطا ، [ وقريب منه ما ذهب إليه إمام الحرمين في الجزم بوجوب الانكفاف بخبر المستور ; كما سيأتي فيه مع النزاع في الوجوب بكلام النووي ] .
( فإن يقل ) على وجه الخدش في الاعتضاد بمسند : ( فالمسند ) هو ( المعتمد ) حينئذ ولا حاجة إلى المرسل ، ( فقل ) مجيبا بما هو حاصل كلام : إن المرسل تقوى بالمسند ، وبان به قوة الساقط منه ، وصلاحيته للحجة . ابن الصلاح
وأيضا فكما قال النووي - وعليه اقتصر الناظم - لتضمنه إبداء فائدة ذلك : هما ( دليلان ) ; إذ المسند دليل برأسه ، والمرسل ( به ) أي : المسند ( يعتضد ) ، ويصير دليلا آخر ، فيرجح بهما الخبر عند معارضة خبر ليس له سوى طريق مسند .
قال غيره : وربما يكون المسند حسنا ، فيرتقي بالمرسل عن هذه المرتبة ، ولكن هذا الإيراد إنما يأتي إذا كان المسند بمفرده صالحا للحجة ، أما إذا كان مما يفتقر إلى اعتضاد فلا ; إذ كل منهما اعتضد بالآخر ، وصار به حجة .
ولذا قيده الإمام في " المحصول " بقوله : هذا في مسند لم تقم به الحجة إذا انفرد . الفخر الرازي
أفاده شيخنا ، وحينئذ فيكون اعتضاده بهذا المسند كاعتضاده بمرسل آخر ; لاشتراكهما في عدم الصلاحية للحجة ، ويجيء القول بعدم الفائدة في ذلك ; لأنه انضمام غير مقبول إلى مثله ، فهو بمثابة شهادة غير العدل إذا انضمت إلى مثلها .
ولكن قد أجيب بأن القوة إنما حصلت من هيئة الاجتماع ; إذ بانضمام أحدهما إلى الآخر ، قوي الظن بأن له أصلا ، كما تقدم في تقرير الحسن لغيره ; [ ص: 189 ] أن الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ راويه وكثرة غلطه لا من جهة اتهامه بالكذب - إذا روي مثله بسند آخر نظيره في الرواية ، ارتقى إلى درجة الحسن ; لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الراوي ، ويعتضد كل منهما بالآخر ، ويشهد لذلك أفراد المتواتر .
والتشبيه بالشهادة ليس بمرضي ; لافتراقهما في أشياء كثيرة ( ورسموا ) أي : سمى جمهور أهل الحديث ( منقطعا ) قولهم ( عن رجل ) أو شيخ أو نحو ذلك مما يبهم الراوي فيه ، وأمثلته كثيرة .
وممن صرح بذلك في الوهم والإيهام له ، ومن قبله ابن القطان الحاكم ، وأشار إلى أنه لا يسمى مرسلا ، و ( في ) كتب ( الأصول ) كـ ( البرهان ) لإمام الحرمين ( نعته ) يعني تسميته ( بالمرسل ) ; وذلك أنه جعل من صوره أن يقول رجل : عن فلان الراوي ، من غير أن يسميه .
أو : أخبرني موثوق به رضي ، قال : وكذلك إسناد الأخبار إلى كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملحق بالمرسل ; للجهل بناقل الكتاب ، بل في " المحصول " أن الراوي إذا سمى الأصل باسم لا يعرف به ، فهو كالمرسل ، وهذا يشمل المهمل ; كعن محمد ، وهو يحتمل جماعة يسمون بذلك ، وكذا المجهول ; إذ لا فرق .