الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
( قلت : الشيخ ) ابن الصلاح ( لم يفصل ) في المرسل المعتضد بين كبار التابعين وصغارهم ، بل أطلق كما ترى ، وكأنه بناء على المشهور في تعريفه كما تقدم ( والشافعي ) الذي اعتمد ابن الصلاح مقاله في ذلك ( بالكبار منهم قيدا ) المعتضد ، وتبع ابن الصلاح في الإطلاق النووي في عامة كتبه .

ثم تنبه للتقييد في شرحه للوسيط وهو من أواخر تصنيفه ; فإنه قال فيه : وأما الحديث المرسل فليس بحجة عندنا ، إلا أن الشافعي كان يرى الاحتجاج بمرسل الكبار من التابعين ، بشرط أن يعتضد بأحد أمور أربعة ، وذكرها .

وكذا قيده الشافعي بـ ( من روى ) منهم ( عن الثقات أبدا ) ; بحيث إذا عين شيخه في مرسله في رواية أخرى ، أو في مطلق حديثه حسب ما يحتملها كلام الشافعي الآتي : لا يسمى مجهولا ، ولا مرغوبا عن الرواية عنه ، ولا يكفي قوله : ( إنه لم يكن يأخذ إلا عن الثقات ) كما جاء عن سعيد بن المسيب وغيره .

فالتوثيق مع الإبهام لا يكفي - على ما سيأتي - نعم قد قال الشافعي في سعيد بخصوصه : إنه ما عرفه روى إلا عن ثقة ، وأجاب بذلك من عارضه في قبول مراسيله خاصة ، بل وزاد : أنه لا يحفظ له منقطعا إلا وجد ما يدل على تسديده .

ولهذا قال ابن الصلاح عقب العاضد بمجيئه من وجه آخر : ولهذا احتج الشافعي بمرسلات سعيد ; فإنها وجدت مسانيد من وجوه أخر . قال : ولا يختص ذلك عنده بإرسال ابن المسيب . انتهى .

[ ص: 184 ] وتبعه أحمد ، فنقل الميموني وحنبل معا عنه أنه قال : مراسيل سعيد صحاح ، لا نرى أصح من مرسلاته .

وقال ابن معين : هي أحب إلي من مرسلات الحسن ، ولكن قد قال النووي في الإرشاد : اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد حجة عند الشافعي ، حتى إن كثيرا منهم لا يعرفون غير ذلك ، وليس الأمر على ذلك ، ثم بينه بما ذكر معناه في شرح المهذب ; فإنه قال فيه - عقب نقله عن الشافعي في المختصر .

مما رواه عنه الربيع أيضا : إرسال ابن المسيب عندنا حسن - ما نصه : اختلف أصحابنا المتقدمون في معناه على وجهين ، حكاهما الشيخ أبو إسحاق في اللمع ، والخطيب في كتابيه الفقيه والمتفقه والكفاية وآخرون .

أحدهما : أنها حجة عنده ، بخلاف غيرها من المراسيل ، قالوا : لأنها فتشت فوجدت مسندة .

ثانيهما : أنها ليست بحجة عنده ، بل هي كغيرها على ما ذكرناه ، قالوا : وإنما رجح الشافعي بمرسله ، والترجيح بالمرسل جائز .

قال الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه : والصواب الثاني ، وأما الأول ، فليس بشيء ، وكذا قال في الكفاية : إن الثاني هو الصحيح ; لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد بحال من وجه يصح .

قال البيهقي : وقد ذكرنا لابن المسيب مراسيل لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها ، ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها .

قال : وزيادة [ ص: 185 ] ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ .

قال أي : النووي : وأما قول القفال المروزي في أول كتابه شرح التلخيص قال الشافعي في " الرهن الصغير " : مرسل سعيد عندنا حجة - فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين .

[ إذا علم هذا ، فلم ينفرد سعيد بهذا الوصف فقط ، قال أبو داود في سننه : سمعت محمد بن حميد يقول : سمعت يعقوب بن عبد الله القمي يقول ] : كل شيء حدثتك عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مسند عن ابن عباس ، [ ولكن هذا خاص .

ونحوه قول ابن سيرين المحكي قبيل المرسل ] ، ( و ) قيده أيضا بـ ( من إذا شارك ) منهم ( أهل الحفظ ) في أحاديثهم ( وافقهم ) فيها ولم يخالفهم ( إلا بنقص لفظ ) [ الحفاظ بكلمة فأزيد مما ] لا يختل معه المعنى ; فإن ذلك لا يضر في قبول مرسله ، وكل من هذه - أعني روايته عن الثقات ، وموافقة الحفاظ ، وكونه من الكبار - صفة للمرسل بكسر المهملة ، دالة على صحة مرسله المروي عنه .

وثانيها : جار في كل راو أرسل أو أسند ، كما قيل : إن المحتج بالمرسل أيضا يشترط أولها ، كما تقدم مع النزاع فيه .

وهذا سياق نص الشافعي ; ليعلم أن الشارح وغيره ممن أورده أخل منه [ ص: 186 ] بأشياء مهمة .

فروى البيهقي في المدخل عن شيخه الحاكم عن الأصم عن الربيع عنه أنه قال : والمنقطع مختلف ، فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين ، فحدث حديثا منقطعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر عليه بأمور : منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث ، فإن شركه الحفاظ المأمونون ، فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه ، وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده ، قبل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذين قبل عنهم ، فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله ، وهي أضعف من الأولى ، وإن لم يوجد ذلك ، نظر إلى بعض ما يروي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا له ، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله .

وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه ، لم يسم مجهولا ، ولا مرغوبا عن الرواية عنه ، فيستدل بذلك على صحته فيما يروي عنه ، ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه ، فإن خالفه ووجد حديثه أنقص ، كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه .

ومتى خالف ما وصفت ، أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله .

قال : وإذا وجدت الدلائل لصحة حديثه بما وصفت ، أحببنا - يعني اخترنا - كما قاله البيهقي - أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمؤتصل ; وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي وإن بعض المنقطعات ، وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حديث من لو سمي لم يقبل .

وإن قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه لو وافقه ، لم يدل على صحة مخرج الحديث [ ص: 187 ] دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقه ، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه بعض الفقهاء .

قال : فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم منهم واحدا يقبل مرسله ; لأمور : أحدها : أنهم أشد تجوزا فيمن يروون عنه ، والآخر : أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه ، والآخر : كثرة الإحالة للأخبار ، وإذا كثرت الإحالة ، كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه .

وكذا رواه الخطيب في الكفاية من طريق أحمد بن موسى الجوهري ، ومحمد بن حمدان الطرائفي ، كلاهما عن الربيع به بزيادة قوله في أواخره : عن التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض الصحابة ، فليس عند البيهقي ، وهو يفيد فائدة جليلة .

وقد زاد بعضهم : مما يعتضد به المرسل : فعل صحابي ، أو انتشارا ، أو عمل أهل العصر ، أو قياسا معتبرا .

ويمكن رجوعها إلى كلام الشافعي بتكلف في بعضها ، ثم إن ما تقدم عن الشافعي من عدم الاحتجاج بالمرسل إلا إن اعتضد - هو المعتمد ، وإن زعم الماوردي أنه في الجديد يحتج بالمرسل إذا لم يوجد دليل سواه ، وكذا نقله غيره ، فلقد رده ابن السمعاني بإجماع النقلة من العراقيين والخراسانيين للمسألة عنه على أنه عنده غير حجة .

نعم قال التاج السبكي ما معناه : إنه إذا دل على محظور ولم يوجد سواه ، [ ص: 188 ] فالأظهر وجوب الانكفاف ; يعني احتياطا ، [ وقريب منه ما ذهب إليه إمام الحرمين في الجزم بوجوب الانكفاف بخبر المستور ; كما سيأتي فيه مع النزاع في الوجوب بكلام النووي ] .

( فإن يقل ) على وجه الخدش في الاعتضاد بمسند : ( فالمسند ) هو ( المعتمد ) حينئذ ولا حاجة إلى المرسل ، ( فقل ) مجيبا بما هو حاصل كلام ابن الصلاح : إن المرسل تقوى بالمسند ، وبان به قوة الساقط منه ، وصلاحيته للحجة .

وأيضا فكما قال النووي - وعليه اقتصر الناظم - لتضمنه إبداء فائدة ذلك : هما ( دليلان ) ; إذ المسند دليل برأسه ، والمرسل ( به ) أي : المسند ( يعتضد ) ، ويصير دليلا آخر ، فيرجح بهما الخبر عند معارضة خبر ليس له سوى طريق مسند .

قال غيره : وربما يكون المسند حسنا ، فيرتقي بالمرسل عن هذه المرتبة ، ولكن هذا الإيراد إنما يأتي إذا كان المسند بمفرده صالحا للحجة ، أما إذا كان مما يفتقر إلى اعتضاد فلا ; إذ كل منهما اعتضد بالآخر ، وصار به حجة .

ولذا قيده الإمام الفخر الرازي في " المحصول " بقوله : هذا في مسند لم تقم به الحجة إذا انفرد .

أفاده شيخنا ، وحينئذ فيكون اعتضاده بهذا المسند كاعتضاده بمرسل آخر ; لاشتراكهما في عدم الصلاحية للحجة ، ويجيء القول بعدم الفائدة في ذلك ; لأنه انضمام غير مقبول إلى مثله ، فهو بمثابة شهادة غير العدل إذا انضمت إلى مثلها .

ولكن قد أجيب بأن القوة إنما حصلت من هيئة الاجتماع ; إذ بانضمام أحدهما إلى الآخر ، قوي الظن بأن له أصلا ، كما تقدم في تقرير الحسن لغيره ; [ ص: 189 ] أن الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ راويه وكثرة غلطه لا من جهة اتهامه بالكذب - إذا روي مثله بسند آخر نظيره في الرواية ، ارتقى إلى درجة الحسن ; لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الراوي ، ويعتضد كل منهما بالآخر ، ويشهد لذلك أفراد المتواتر .

والتشبيه بالشهادة ليس بمرضي ; لافتراقهما في أشياء كثيرة ( ورسموا ) أي : سمى جمهور أهل الحديث ( منقطعا ) قولهم ( عن رجل ) أو شيخ أو نحو ذلك مما يبهم الراوي فيه ، وأمثلته كثيرة .

وممن صرح بذلك ابن القطان في الوهم والإيهام له ، ومن قبله الحاكم ، وأشار إلى أنه لا يسمى مرسلا ، و ( في ) كتب ( الأصول ) كـ ( البرهان ) لإمام الحرمين ( نعته ) يعني تسميته ( بالمرسل ) ; وذلك أنه جعل من صوره أن يقول رجل : عن فلان الراوي ، من غير أن يسميه .

أو : أخبرني موثوق به رضي ، قال : وكذلك إسناد الأخبار إلى كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملحق بالمرسل ; للجهل بناقل الكتاب ، بل في " المحصول " أن الراوي إذا سمى الأصل باسم لا يعرف به ، فهو كالمرسل ، وهذا يشمل المهمل ; كعن محمد ، وهو يحتمل جماعة يسمون بذلك ، وكذا المجهول ; إذ لا فرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية