الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
وبالجملة فهذه أنواع لهذا القسم ، ( واختلف في أهله ) أي : أهل هذا القسم المعروفين به أيرد حديثهم أم لا ؟ ( فالرد ) لهم ( مطلقا ) سواء أبينوا السماع أم لا ، دلسوا عن الثقات أم لا ( ثقف ) بضم المثلثة بعدها قاف ثم فاء ، أي : وجد .

كما قال ابن الصلاح تبعا للخطيب وغيره عن فريق من المحدثين والفقهاء ، حتى بعض من احتج بالمرسل ، محتجين لذلك بأن التدليس نفسه جرح ; لما فيه من التهمة والغش ، حيث عدل عن الكشف إلى الاحتمال ، وكذا التشبع بما لم يعط حيث يوهم السماع لما لم يسمعه ، والعلو وهو عنده بنزول ، الذي قال ابن دقيق العيد : إنه أكثر قصد المتأخرين به .

وممن حكى هذا القول القاضي عبد الوهاب في التلخيص فقال : التدليس جرح ، فمن ثبت تدليسه لا يقبل حديثه مطلقا .

قال : وهو الظاهر على أصول [ ص: 229 ] مالك ، وقيده ابن السمعاني في القواطع بما إذا استكشف فلم يخبر باسم من يروي عنه .

قال : لأن التدليس تزوير وإيهام لما لا حقيقة له ، وذلك يؤثر في صدقه ، أما إن أخبر فلا .

والثاني : القبول مطلقا صرحوا أم لا ، حكاه الخطيب في كفايته عن خلق كثيرين من أهل العلم ، قال : وزعموا أن نهاية أمره أن يكون مرسلا .

والثالث - وعزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث - : التفصيل ، فمن كان لا يدلس إلا عن الثقات ، كان تدليسه عند أهل العلم مقبولا و إلا فلا ، قاله البزار ، وبه أشعر قول ابن الصباغ في مدلس الضعيف : " يجب ألا يقبل خبره " ، وبالتفصيل صرح أبو الفتح الأزدي .

وأشار إليه الفقيه أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة ، وجزم به أبو حاتم بن حبان وابن عبد البر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة ، وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال : " إنه لا يوجد له تدليس قط ، إلا وجد بعينه قد بين سماعه فيه من ثقة " ; يعني كما قيل في سعيد بن المسيب على ما مضى في المرسل .

[ ص: 230 ] وفي سؤالات الحاكم للدارقطني أنه سئل عن تدليس ابن جريج ، فقال : يجتنب ، وأما ابن عيينة فإنه يدلس عن الثقات .

ولذا قيل : أما الإمام ابن عيينة فقد اغتفروا تدليسه من غير رد ، ومما وقع لابن عيينة أنه روى بالعنعنة عن عمرو بن دينار ، ثم بين حين سئل أن بينهما علي بن المديني عن أبي عاصم عن ابن جريج ، أخرجه الخطيب ، وتقدم عنه التدليس عن الزهري بواسطتين فقط ، لكن مع حذف الصيغة أصلا .

وكذا قيل في حميد الطويل : إنه لم يسمع من أنس إلا اليسير ، وجل حديثه إنما هو عن ثابت عنه ، ولكنه يدلسه .

فقال العلائي ردا على من قال : إنه لا يحتج من حديث حميد إلا بما صرح فيه - : " قد تبين الواسطة فيها ، وهو ثقة محتج به " .

والرابع : إن كان وقوع التدليس منه نادرا ، قبلت عنعنته ونحوها ، وإلا فلا ، وهو ظاهر جواب ابن المديني ; فإن يعقوب بن شيبة قال : سألته عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل فيه حدثنا ؟ فقال : إذا كان الغالب عليه التدليس فلا .

( والأكثرون ) من أئمة الحديث والفقه والأصول ( قبلوا ) من حديثهم ( ما صرحا ثقاتهم ) خاصة ( بوصله ) كسمعت ، وثنا ، وشبههما [ وممن ذهب إلى هذا التفصيل الشافعي ، وابن معين ، وابن المديني ، بل وظاهر كلامه قبول عنعنتهم إذا [ ص: 231 ] كان التدليس نادرا كما حكيته قريبا ; لأن التدليس ليس كذبا ، وإنما هو تحسين لظاهر الإسناد ، كما قال البزار ، وضرب من الإيهام بلفظ محتمل ، فإذا صرح قبلوه واحتجوا به ، وردوا ما أتى منه باللفظ المحتمل ، وجعلوا حكمه حكم المرسل ونحوه ، وهذا التفصيل هو خامس الأقوال فيهم .

( وصححا ) ببنائه للمفعول ، أي هذا القول ، وممن صححه الخطيب وابن الصلاح ، فعلى هذا فيجوز فتح أوله أي : صحح ابن الصلاح هذا القول ، ولكنه لم يصرح بحكايته عن الأكثرين .

وممن حكاه العلائي ، بل نفى ابن القطان الخلاف في ذلك ، وعبارته : " إذا صرح المدلس الثقة بالسماع قبل بلا خلاف ، وإن عنعن ففيه الخلاف " .

وقريب منه قول ابن عبد البر : " المدلس لا يقبل حديثه حتى يقول : ثنا أو سمعت ، فهذا ما لا أعلم فيه خلافا " .

وكأنه سلف النووي - رحمه الله - في حكايته في شرح المهذب الاتفاق على أن المدلس لا يحتج بخبره إذا عنعن ، ولكنه متعقب بما تقدم ، إلا إن قيد بمن لا يحتج بالمرسل ، وكذا يتعقب نفي ابن القطان الخلاف فيما إذا صرح بما تقدم ، وإن وافق على حكاية الخلاف في المعنعن .

و ( في ) كتب ( الصحيح ) لكل من البخاري ومسلم وغيرهما ( عدة ) من الرواة المدلسين مخرج لحديثهم مما صرحوا فيه بالتحديث ( كالأعمش ) مع قول مهنأ [ ص: 232 ] : سألت أحمد : لم كرهت مراسيله ؟ قال : لأنه كان لا يبالي عمن حدث ( وكهشيم ) - مصغرا ابن بشير - بالتكبير - الواسطي المتأخر ( بعده ) وأحد الآخذين عنه .

فقد قال ابن سعد : إنه كان يدلس كثيرا ، فما قال فيه : أنا فهو حجة ، وإلا فليس بشيء . وسئل ما يحملك على التدليس ؟ قال : إنه أشهى شيء .

وغيرهما كحميد الطويل ، فإنه - كما قال ابن سعد أيضا - : ثقة ، كثير الحديث ، إلا أنه ربما دلس على أنس ، وكقتادة .

( وفتش ) الصحاح ، فإنك تجد بها التخريج لجماعة كثيرين مما صرحوا فيه ، بل ربما يقع فيها من معنعنهم ، ولكن هو - كما قال ابن الصلاح ، وتبعه النووي وغيره - محمول على ثبوت السماع عندهم فيه من جهة أخرى ، إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات تحسينا للظن بمصنفيها ، يعني ولو لم نقف نحن على ذلك لا في المستخرجات التي هي مظنة لكثير منه ولا في غيرها .

وأشار ابن دقيق العيد إلى التوقف في ذلك ، فإنه قال - بعد تقرير أن معنعن المدلس كالمنقطع ما نصه : وهذا جار على القياس ، إلا أن الجري عليه في تصرفات المحدثين وتخريجاتهم صعب عسير ، يوجب اطراح كثير من الأحاديث التي صححوها ; إذ يتعذر علينا إثبات سماع المدلس فيها من شيخه ، اللهم إلا أن يدعي مدع أن الأولين اطلعوا على ذلك ، وإن لم نطلع نحن عليه . وفي ذلك نظر . انتهى .

وأحسن من هذا كله قول القطب الحلبي في القدح المعلى : " أكثر [ ص: 233 ] العلماء أن المعنعنات التي في الصحيحين منزلة منزلة السماع " ، يعني إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح ، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة أو عن بعض شيوخه ، أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها .

ولذا استثني من هذا الخلاف الأعمش ، وأبو إسحاق ، وقتادة بالنسبة لحديث شعبة خاصة عنهم ، فإنه قال : كفيتكم تدليسهم ، فإذا جاء حديثهم من طريقة بالعنعنة ، حمل على السماع جزما .

وأبو إسحاق فقط بالنسبة لحديث القطان عن زهير عنه . وأبو الزبير عن جابر بالنسبة لحديث الليث خاصة عنه ، والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه ، بل قال البخاري : لا يعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، ولا عن سلمة بن كهيل ، ولا عن منصور ولا عن كثير من مشايخه تدليس ، ما أقل تدليسه ! .

وما أشار إليه شيخنا من إطلاق تخريج أصحاب الصحيح لطائفة منهم ، حيث جعل منهم قسما احتمل الأئمة تدليسه ، وخرجوا له في الصحيح لإمامته ، وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري ، يتنزل على هذا ، لا سيما وقد جعل من هذا القسم من كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة .

وكلام الحاكم يساعده ، فإنه قال : " ومنهم جماعة من المحدثين المتقدمين والمتأخرين مخرج حديثهم في الصحيح ، إلا أن المتبحر في هذا العلم يميز بين [ ص: 234 ] ما سمعوه وبين ما دلسوه " .

[ قلت : وقد أخرج البخاري في مناقب سعد بن معاذ للأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بالعنعنة ، ثم أردفه برواية الأعمش له ، فقال : حدثنا أبو صالح عن جابر ; لتتقوى بها الرواية الأولى ] .

وكذا يستثنى من الخلاف من أكثر التدليس عن الضعفاء والمجاهيل ; كبقية بن الوليد ; لاتفاقهم - كما قاله شيخنا - على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا بالسماع فيه ، أو من ضعف بأمر آخر سوى التدليس ، فإن هؤلاء حديثهم مردود جزما ، ولو صرحوا بالسماع إلا إن توبعوا ، ولو كان الضعف يسيرا كابن لهيعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية