20 - . الصلاة عند طلوع الشمس
قالوا : رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الشمس تطلع من بين قرني شيطان فلا تصلوا لطلوعها قالوا : فجعلتم للشيطان قرونا تبلغ السماء ، وجعلتم الشمس التي هي مثل الأرض مرات تجري بين قرنيه ، وأنتم مع هذا تزعمون أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فهو في هذه الحال ألطف من كل شيء ، وهو في تلك الحال أعظم من كل شيء ، وجعلتم علة ترك الصلاة في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه ، وما على المصلي لله تعالى إذا جرت الشمس بين قرني الشيطان وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله تعالى ؟ .
قال أبو محمد : ونحن نقول إن إنكارهم لهذا الحديث إن كان من أجل أنهم لا يؤمنون ، وبأن الله تعالى جعل في [ ص: 194 ] تركيبها أن تتحول من حال إلى حال ، فتتمثل مرة في صورة شيخ ومرة في صورة شاب ، ومرة في مثال نار ومرة في مثال كلب ومرة في مثال جان ، ومرة تصل إلى السماء ومرة تصل إلى القلب ومرة تجري مجرى الدم ، فهؤلاء مكذبون بالقرآن وبما تواطأت عليه الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء المتقدمين وكتب الله تعالى المتقدمة والأمم الخالية . بخلق الشياطين والجن
لأن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه أن الشياطين يقعدون من السماء مقاعد للسمع وأنهم يرمون بالنجوم وأخبرنا الله تعالى عن الشيطان أنه قال : ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وهو لا يظهر لنا .
فكيف يأمرنا بهذه الأشياء لولا أنه يصل إلى القلوب بالسلطان الذي جعله الله تعالى له ، فيوسوس بذلك ويزين ويمني ، كما قال الله - جل وعز - وكما روي في الحديث أنه رئي مرة في صورة شيخ نجدي ومرة في صورة ضفدع ومرة في صورة جان .
وقد سمى الله تعالى الجن رجالا كما سمانا رجالا فقال تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وقال في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فدل ذلك على أن الجن تطمث كما يطمث الإنس ، والطمث الوطء بالتدمية .
[ ص: 195 ] قال أبو محمد : ونحن لم نرد في هذا الكتاب أن نرد على الزنادقة ولا المكذبين بآيات الله - عز وجل - ورسله وإنما كان غرضنا الرد على من ادعى على الحديث التناقض والاختلاف واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين ، وإن كان إنكاره لهذا الحديث لأنه رآه لا يقوم في وهمه ، ولأنه لا معنى لترك الصلاة من أجل أن الشمس تطلع بين قرني شيطان ، فنحن نريه المعنى حتى يتصور في وهمه له بإذن الله تعالى ويحسن عنده ولا يمتنع على نظره .
وإنما أمرنا بترك الصلاة مع طلوع الشمس ، لأنه الوقت الذي كانت فيه عبدة الشمس يسجدون فيه للشمس ، وقد درج كثير من الأمم السالفة على عبادة الشمس والسجود لها ، فمن ذلك ما قص الله تبارك وتعالى علينا في نبأ ملكة سبأ ، أن الهدهد قال لسليمان - عليه السلام - عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم وكان في العرب قوم يعبدون الشمس ويعظمونها ويسمونها الإلاهة ، قال الأعشى : .
فلم أذكر الرهب حتى انفتلت قبيل الإلاهة منها قريبا
يعني الشمس ، وكان بعض القراء يقرأ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك يريد : ويذرك والشمس التي تعبد ، فكره لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي في الوقت الذي يسجد فيه عبدة الشمس للشمس .[ ص: 196 ] وأعلمنا أن الشياطين حينئذ أو أن إبليس في ذلك الوقت في جهة مطلع الشمس فهم يسجدون له بسجودهم للشمس ، ويؤمونه . ولم يرد - عليه السلام - بالقرن ما تصوروا في أنفسهم من قرون البقر وقرون الشاء ، وإنما القرن هاهنا حرف الرأس وللرأس قرنان أي حرفان وجانبان ، ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سمي قرنا إلا باسم موضعه ، كما تسمي العرب الشيء باسم ما كان له موضعا أو سببا فيقولون : رفع عقيرته ، يريدون صوته ؛ لأن رجلا قطعت رجله فرفعها واستغاث من أجلها ، فقيل لمن رفع صوته رفع عقيرته . ومثل هذا كثير في كلام العرب .
وكذلك قوله في المشرق : " من هاهنا يطلع قرن الشيطان " لا يريد به ما يسبق إلى وهم السامع من قرون البقر ، وإنما يريد من هاهنا يطلع رأس الشيطان ، وكان يقول في وهب بن منبه ذي القرنين : إنه رجل من أهل الإسكندرية واسمه الإسكندروس ، وأنه كان حلم حلما رأى فيه أنه دنا من الشمس ، حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها ، فقص رؤياه على قومه فسموه : . ذا القرنين
وأراد بأخذه بقرنيها أنه أخذ بجانبيها ، والقرون أيضا خصل الشعر كل خصلة قرن ، ولذلك قيل للروم ذات القرون ، يراد أنهم يطولون الشعور فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس ، وعند سجود عبدتها لها مائل مع الشمس ، فالشمس تجري من قبل رأسه ، فأمرنا أن لا نصلي في هذا الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء ويصلون للشمس وللشيطان .
قال ابن قتيبة : وهذا أمر مغيب عنا ، لا نعلم منه إلا ما علمنا . [ ص: 197 ] والذي أخبرتك به شيء يحتمله التأويل ويباعده عن الشناعة والله أعلم .
ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه إلا لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر عندهم ، وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم ومن الحيوان والموات ، واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين ، فإذا سمعوا بملائكة على كواهلها العرش وأقدامها في الأرض السفلى استوحشوا من ذلك لمخالفته ما شاهدوا ، وقالوا : كيف تخرق جثث هؤلاء السماوات ، وما بينهما والأرضين وما فوقها ، من غير أن نرى لذلك أثرا ؟ .
وكيف يكون خلق له هذه العظمة وكيف تكون أرواحا ولها كواهل وأقدار ، وإذا سمعوا بأن جبريل - عليه السلام - مرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي ومرة في صورة ومرة في صورة شاب ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق والمغرب ، قالوا كيف يتحول من صورة إلى صورة ؟ وكيف يكون مرة في غاية الصغر ومرة في غاية الكبر من غير أن يزاد في جسمه ولا جثته وأعراضه ؟ لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك ، وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب ابن آدم حتى يوسوس له ويخنس . قالوا : من أين يدخل ؟ وهل يجتمع روحان في جسم ؟ وكيف يجري مجرى الدم ؟ . دحية الكلبي
قال أبو محمد : ولو اعتبروا ما غاب عنهم بما رأوه من قدرة الله - جل وعز - لعلموا أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر ، [ ص: 198 ] منذ خلق الله الأرض وما عليها ، فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه . ولو جعل لنهر منها مثل دجلة أو الفرات أو النيل سبيل إلى ما على وجه الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب شهرا ، لم يبق على ظهرها شيء إلا هلك ، هو الذي قدر على ما أنكروا وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض على عظمها وكثافتها وبحارها ، وأطوادها وأنهارها حتى تتصدع الجبال ، وحتى تغيض المياه وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان ، هو الذي لطف لما قدر .
وأن الذي وسع إنسان العين مع صغره وضعفه لإدراك نصف الفلك على عظمه ، حتى رأى النجم من المشرق ورقيبه من المغرب وما بينهما ، وحتى خرق من الجو مسيرة خمسمائة عام ، هو الذي خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه ، مسيرة خمسمائة عام .
فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف ؟ وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره ؟ فتعالى الله أحسن الخالقين .