وأما البرك بن عبد الله فقعد لمعاوية - رضي الله عنه - فخرج لصلاة الغداة ، فشد عليه بسيفه وأدبر معاوية هاربا ، فوقع السيف في إليته ، فقال : إن عندي خبرا أبشرك به ، فإن أخبرتك أنافعي ذلك عندك ؟ قال : وما هو ؟ قال : إن أخا لي قتل عليا في هذه الليلة ، قال : فلعله لم يقدر عليه ؟ قال : بلى ، إن عليا يخرج ليس معه أحد يحرسه ، فأمر به معاوية - رضي الله عنه - فقتل ، فبعث إلى الساعدي ، وكان طبيبا ، فنظر إليه فقال : إن ضربتك مسمومة ، فاختر مني إحدى خصلتين : إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف ، وإما أسقيك شربة تقطع منك الولد ، وتبرأ منها ، فإن ضربتك مسمومة ، فقال له معاوية : أما النار فلا صبر لي عليها ، وأما انقطاع الولد [ ص: 101 ] فإن في يزيد ، وعبد الله ، وولدهما ما تقر به عيني ، فسقاه تلك الليلة الشربة ، فبرأ فلم يولد بعد له ، فأمر معاوية - رضي الله عنه - بعد ذلك بالمقصورات ، وقيام الشرط على رأسه ، وقال علي للحسن والحسين - رضي الله عنهم - : أي بني أوصيكما بتقوى الله ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة عند محلها ، وحسن الوضوء ، فإنه لا يقبل صلاة إلا بطهور ، وأوصيكم بغفر الذنب ، وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عن الجهل ، والتفقه في الدين ، والتثبت في الأمر ، وتعاهد القرآن ، وحسن الجوار ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش ، قال : ثم نظر إلى فقال : هل حفظت ما أوصيت به أخويك ؟ قال : نعم ، قال : فإني أوصيك بمثله ، وأوصيك بتوقير أخويك لعظم حقهما عليك ، وتزيين أمرهما ، ولا تقطع أمرا دونهما ، ثم قال لهما : أوصيكما به ، فإنه شقيقكما ، وابن أبيكما ، وقد علمتما أن أباكما كان يحبه ، ثم أوصى فكانت وصيته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به محمد بن الحنفية - رضي الله عنه - ، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن علي بن أبي طالب محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين ، ثم أوصيكما يا حسن ، ويا حسين ، وجميع أهلي وولدي ، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، فإني سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن صلاح ذات البين أعظم من عامة الصلاة والصيام وانظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب ، والله الله في الأيتام لا يضيعن بحضرتكم ، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم [ ص: 102 ] والله الله في الزكاة فإنها تطفيء غضب الرب - عز وجل - ، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم ، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم ، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، والله الله في بيت ربكم - عز وجل - لا يخلون ما بقيتم ، فإنه إن ترك لم تناظروا ، والله الله في أهل ذمة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يظلمن بين ظهرانيكم ، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قال : " " جبريل يوصيني بهم حتى ظننت أنه سيورثهم " والله الله في أصحاب نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه وصى بهم ، والله الله في الضعيفين : نسائكم ، وما ملكت أيمانكم ، فإن آخر ما تكلم به - صلى الله عليه وسلم - أن قال : " ما زال " الصلاة الصلاة ، لا تخافن في الله لومة لائم ، يكفكم من أرادكم وبغى عليكم ، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيولي أمركم شراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم ، عليكم بالتواصل ، والتباذل ، وإياكم والتقاطع ، والتدابر ، والتفرق ، أوصيكم بالضعيفين : النساء ، وما ملكت أيمانكم وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ، حفظكم الله من أهل بيت ، وحفظ فيكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض في شهر رمضان ، في سنة أربعين وغسله الحسن والحسين ، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ، وكبر عليه وعبد الله بن جعفر الحسن تسع تكبيرات ، وولي الحسن - رضي الله عنه - عمله ستة أشهر ، وكان ابن ملجم قبل أن يضرب عليا قاعدا في بني بكر بن وائل ، إذ مر عليه بجنازة أبجر بن جابر العجلي أبي حجار ، وكان نصرانيا ، والنصارى حوله ، وأناس مع حجار بمنزلته فيهم ، يمشون في جانب ، أمامهم ، فلما رآهم قال : ما هؤلاء ؟ فأخبر ، ثم أنشأ يقول : شقيق بن ثور السلمي
[ ص: 103 ]
لئن كان حجار بن أبجر مسلما لقد بوعدت منه جنازة أبجر وإن كان حجار بن أبجر كافرا
فما مثل هذا من كفور بمنكر أترضون هذا إن قسا ومسلما
جميعا لدى نعش فيا قبح منظر وقال ابن أبي عياش المرادي :
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام بينا غير معجم ثلاثة آلاف ، وعبد ، وقينة
وضرب علي بالحسام المصمم ولا مهر أغلى من علي وإن غلا
ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم
ألا أبلغ ولا قرت عيون الشامتينا معاوية بن حرب
أفي الشهر الحرام فجعتمونا بخير الناس طرا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا وخيسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ومن قرأ المثاني والمئينا
لقد علمت قريش حيث كانت بأنك خيرها حسبا ودينا
فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه وصاحبه دون الرجال الأقارب
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
ويضربني بالسيف آخر مثله فكانت عليه تلك ضربة لازب
وأنت تناغي كل يوم وليلة بمصرك بيضا كالظباء الشوارب
وكان الذي ذهب بنعيه سفيان بن عبد شمس بن أبي وقاص الزهري ، وقد كان الحسن بعث على تقدمته في اثني عشر ألفا ، وخرج قيس بن سعد بن عبادة معاوية حتى نزل إيلياء في ذلك العام ، وخرج الحسين - رضي الله عنه - ، حتى نزل في القصور البيض في المدائن ، وخرج معاوية حتى نزل مسكنا ، وكان على المدائن عم المختار لابن أبي عبيد ، وكان يقال له : سعد بن مسعود ، فقال له المختار وهو يومئذ غلام : هل لك في الغنى والشرف ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية ، فقال له سعد : عليك لعنة الله ، أأثب على ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوثقه ؟ بئس الرجل أنت ، فلما رأى الحسن - رضي الله عنه - تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح ، فبعث إليه [ ص: 105 ] معاوية عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس فقدما على الحسن بالمدائن ، فأعطياه ما أراد وصالحاه ، ثم قام الحسن - رضي الله عنه - في الناس ، وقال : يا أهل العراق ، إنه مما يسخئ بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي ، ودخل في طاعة معاوية رحمهما الله ، ودخل الكوفة فبايعه الناس " .