الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 413 ] 3 - ومن باب المزارعة

حديث ابن عمر في كراء الأرض - ترك ابن عمر هذا الأمر آخرا - رأي لبعض أهل العلم - من قال به - رأي ثاني - ورأي ثالث - حديث عمي رافع في النهي عن كراء الأرض - ترك ابن عمر بعد - كلام الخطابي على حديث رافع - رواية أخرى يبينها الخطابي - حديث جابر - حديث آخر روي من غير وجه عن جابر - مناقشة الحازمي .

أخبرنا الفضل بن القاسم بن الفضل الصيدلاني ، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي ، أخبرنا مكي بن عبدان بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الأربعاء وشيء من التبن لا أدري كم هو .

[ ص: 414 ] وأخبرنا أبو الفضل بن محمد الديلمي الكاتب ، أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا أبو محمد الجوهري ، عن علي بن عمر ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى ، أخبرنا أبو حاتم النيسابوري ، أخبرنا مسلم ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا عبيد الله بن جعفر الرقي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد ، عن عبد الملك بن أبي زيد ، قال : كان ابن عمر يعطي أرضه بالثلث والربع ، ثم تركه ابن عمر فقلنا لطاوس : ما بال ابن عمر ترك الثلث والربع ، وأنت لا تدعه ، وإنما سمعتما حديثا واحدا - يعني حديث رافع - ؟ فقال : إني والله لو أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله ما فعلته ؛ ولكن ابن عباس قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له أرض فإنه إن يمنحها أخاه خير .

هذا حديث له طرق وفيه اختلاف ألفاظ لا يمكن حصرها في هذا المختصر ، وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب .

فذهب بعضهم إلى أن من استأجر أرضا على جزء معين مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الربع أن ذلك جائز ، والعقد صحيح ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وابن شهاب الزهري ، ومن أهل الرأي : أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، وقال أحمد بن حنبل : يجوز ذلك إذا كان البذر من رب الأرض ، وتمسكوا في ذلك بظاهر حديث ابن عمر ، قالوا : يؤكده [ ص: 415 ] حديث ابن عباس ؛ لأن قوله عليه السلام : لأن يمنحها أخاه خير . ليس فيه دلالة على اللزوم ، وإنما اللفظ صدر مصدر التخيير .

وفيهم من تمسك بما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر وزرع .

خالفهم في ذلك آخرون ، وقالوا : العقد فاسد ، وروي مثل ذلك عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، ورافع بن خديج ، وأسيد بن ظهير ، وأبي هريرة ، ونافع ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، ومن الكوفيين : أبو حنيفة ، وتمسكوا في ذلك بأحاديث .

أخبرنا الفضل بن القاسم بن الفضل ، أخبرنا أبو علي ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا أبو إسحاق المزكي ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد ، حدثني أبي ، عن جدي ، حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب أنه قال : أخبرني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء المزارعين ، فلقيه عبد الله فقال : يا بن خديج ، ماذا تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كراء الأرض ؟ قال رافع بن خديج لعبد الله : سمعت [ ص: 416 ] عماي - وكانا قد شهدا بدرا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض . قال عبد الله : لقد كنت أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأرض تكرى ، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدث في ذلك شيئا لم يكن علمه ، فترك كراء الأرض .

وقال مسلم : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا يزيد بن زريع عن أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي إمارة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وصدرا من خلافة معاوية ، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليه وأنا معه فسأله ، فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد ، وكان إذا سئل عنها بعد قال : زعم ابن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها .

قرئ على أبي المحاسن محمد بن عبد الخالق الجوهري ، أخبرك عبد الواحد بن إسماعيل الإمام في كتابه ، أخبرنا أحمد بن محمد البلخي ، حدثنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قال : خبر رافع بن خديج من هذا الطريق خبر مجمل تفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج ، وعن غيره من طريق آخر ، وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر ، وأنه ليس [ ص: 417 ] المراد به تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض ، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أراضيهم ، وأن يرفق بعضهم بعضا .

وقد ذكر رافع بن خديج - في رواية أخرى عنه - النوع الذي حرم منها ، والعلة التي من أجلها نهى عنها .

قلت : أراد الخطابي بالرواية الأخرى ما أخبرنا أبو الفضائل بن أبي المطهر ، أخبرنا الحسن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدثنا مسلم ، حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر ، أخبرنا الليث ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس ، عن رافع بن خديج ، أنه قال : حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ينبت على الأربعاء ، شيئا يستثنيه صاحب الأرض من التبن ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقلت لرافع بن خديج : فكيف هي بالدنانير والدراهم ؟ فقال رافع : لا بأس بها بالدنانير والدراهم .

قال الخطابي : فقد أعلمك رافع في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم ، وأنه كان من عاداتهم أن يشترطوا فيها شروطا فاسدة ، وبسط الكلام فيه ، قلت : وإنما صدر هذا الكلام من الخطابي ظنا منه بأن المنهي عنه في خبر رافع إنما هو القدر المجهول ، ولو استقرأ طرق هذا الحديث لبان له أن النهي تناول المجهول والمعلوم ، وذلك بين في رواية سليمان بن يسار .

أخبرنا محمد بن عمر بن أبي عيسى ، عن محمد بن أبي عبد الله المطرز ، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن مهران ، أخبرنا إبراهيم بن محمد النيسابوري ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدثنا مسلم ، حدثنا أبو طاهر ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان [ ص: 418 ] بن يسار ، عن رافع بن خديج قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ، ولا يكريها أخاه ، ولا يكريها بالثلث ، ولا الربع ، ولا طعام مسمى .

رواه سعيد بن أبي عروبة عن سليمان نحوه ، وقال مسلم بالإسناد ، حدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا أبو عاصم ، عن الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن جابر ، قال : كان لرجال من الأنصار فضول أرضين ، وكانوا يكرونها بالثلث والربع ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ، فإن أبى فليمسكها .

ويروى هذا الحديث عن جابر من غير وجه ؛ فإن قيل : قد روى عروة بن الزبير ، عن زيد بن ثابت أنه قال : يغفر الله لرافع ؛ أنا والله أعلم منه بالحديث ، إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان شأنكم هذا فلا تكروا المزارع .

وهذا يدل على أن الذي صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على وجه المشورة والإرشاد دون الإلزام والإيجاب ، والجواب : أن هذا غير قادح فيما ذكرناه من دلالة النهي ، فإن الاعتبار بلفظ النهي وعمومه دون السبب ، فإن قيل : قول ابن عمر : إن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه [ ص: 419 ] دلالة على أن هذا الحكم كان مأذونا فيه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا من قبيل الأمور الدنيوية ، فليس من شرطه إحاطة علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به ، وما لم يثبتوا ذلك لا يستقيم لكم ادعاء النسخ إذ المنسوخ لا بد وأن يكون حكما شرعيا .

يقال على هذا الكلام : إن أكثر المحققين ذهبوا إلى أن قول الصحابي : كنا نفعل كذا ، وكانوا يفعلون كذا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر في الدلالة على جواز الفعل ، وأن ذكر الصحابي نحو ذلك في معرض الحجة ، يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله وسكت عنه ، دون ما لم يبلغه ، وذلك يدل على الجواز ، ثم في حديث ابن عمر ما يدل عليه ، حيث قال : لقد كنت أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأرض تكرى ، قال : ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدث في ذلك شيئا ، ولو لم يعلم بأن ما كان يذهب إليه من الجواز كان مستندا إلى إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يتوقف في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية