الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 271 ] بيان نسخ الأفضلية بالإسفار

أخبرنا أبو المحاسن محمد بن عبد الخالق بن أبي نصر الأنصاري ، أخبرنا أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الفقيه في كتابه ، حدثنا أحمد بن محمد البلخي ، أخبرنا أحمد بن محمد البستي ، أخبرنا محمد بن بكر بن محمد ، أخبرنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، حدثنا ابن وهب ، عن أسامة بن زيد الليثي ، أن ابن شهاب أخبره ، عن عروة ، عن بشير بن أبي مسعود ، عن أبيه ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح مرة بغلس ، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات بعد أن كان يسفر .

هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات ، وهو حديث ثابت مخرج في الصحيح بدون هذه الزيادة ، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات ، والزيادة عن الثقة مقبولة .

[ ص: 272 ] ( وقد ذهب أكثر أهل العلم ) إلى هذا الحديث ، ورأوا التغليس أفضل ، روينا ذلك عن الخلفاء الراشدين : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن ابن مسعود ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي مسعود الأنصاري ، وعبد الله بن الزبير ، وعائشة ، وأم سلمة .

ومن التابعين : عمر بن عبد العزيز ، وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب مالك ، وأهل الحجاز ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وإسحاق ، غير أن الشافعي رجح أحاديث التغليس من وجه آخر ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كن نساء من المؤمنات يصلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس .

[ ص: 273 ] قال الشافعي : وذكر تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفجر : سهل بن سعد ، وزيد بن ثابت ، وغيرهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شبيها بمعنى حديث عائشة .

قال الشافعي : فقال لي قائل : فنحن نرى أن نسفر بالفجر اعتمادا على حديث رافع بن خديج ، فنزعم أن الفضل في ذلك ، وأنت ترى أن جائزا لنا إذا اختلف الحديثان أن نأخذ بأحدهما ، ونحن نعد هذا مخالفا لحديث عائشة .

قلت له : إن كان مخالفا لحديث عائشة كان الذي يلزمنا وإياك أن نصير إلى حديث عائشة دونه ؛ لأن الأصل ما نبني نحن وأنت عليه ، إن الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركناه ، قال : وما ذلك السبب ؟ قلت : أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله ، فإذا أشبه كتاب الله كان فيه الحجة . قال : هكذا نقول ؟ قلت : فإن لم يكن فيه نص كتاب كان أولاهما بناء الأثبت منهما ، وذلك أن يكون من رواه أعرف إسنادا ، وأشهر بالعلم ، وأحفظ له ، أو يكون روى الحديث الذي ذهبنا إليه من وجهين أو أكثر ، والذي تركنا من وجه ، فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل : أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله ، أو أشبه بما سواها من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو أولى بما يعرف أهل العلم ، أو أوضح في القياس ، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال : وهكذا نقول ، ويقول أهل العلم . قلت : فحديث عائشة أشبه [ ص: 274 ] بكتاب الله تعالى ؛ لأن الله تعالى يقول : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فإذا دخل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة ، وهو أيضا أشهر رجالا بالفقه وأحفظ ، ومع حديث عائشة ثلاثة كلهم يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معنى حديث عائشة : زيد بن ثابت ، وسهل بن سعد ، وهذا أشبه بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث رافع بن خديج .

قال : فأي سنن ؟ قلت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله ، وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئا ، والعفو لا يحتمل إلا معنيين : عفوا عن تقصير ، أو توسعة ، والتوسعة يشبه أن يكون الفضل في غيرها إذا لم يؤمر بترك ذلك الذي وسع في خلافه .

قال : وما تريد بهذا ؟ قلت : إذا لم يؤمر بترك الوقت الأول وكان جائزا أن يصلي فيه غيره قبله فالفضل في التقديم والتأخير تقصير توسع فيه .

وقد أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قلنا ، وسئل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة في أول وقتها . وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به ، وهو الذي لا يجهله عالم . إن تقديم الصلاة في أول وقتها أولى بالفضل لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل ، وهذا أشبه بمعنى كتاب الله ؟ قال : وأين هو من كتاب الله ؟ قلت : قال الله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فمن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن أول وقتها .

وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تطوعوا به يؤمرون بتعجيله إذا [ ص: 275 ] أمكن لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل التي لا تجهلها العقول .

وقال الشافعي : فقال : ( أتعد ) خبر رافع يخالف خبر عائشة ؟ فقلت له : لا . فقال : فبأي وجه يوافقه ؟ فقلت : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حض الناس على تقديم الصلاة ، وأخبر بالفضل فيها احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر فقال - يعني - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أسفروا بالفجر يعني : حين يتبين الفجر الآخر معترضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية