[ ص: 169 ] الثاني : : المناولة المجردة عن الإجازة
بأن يناوله الكتاب كما تقدم ذكره أولا ، ويقتصر على قوله : " هذا من حديثي ، أو من سماعاتي " ولا يقول : " اروه عني ، أو أجزت لك روايته عني " ونحو ذلك .
فهذه مناولة مختلة ، لا تجوز الرواية بها ، وعابها غير واحد من الفقهاء ، والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها .
وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم أنهم صححوها ، وأجازوا الرواية بها ، وسنذكر - إن شاء الله سبحانه ، وتعالى - قول من أجاز ، وهذا يزيد على ذلك ويترجح بما فيه من المناولة ، فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية ، والله أعلم . الرواية بمجرد إعلام الشيخ الطالب أن هذا الكتاب سماعه من فلان
القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة :
حكي عن قوم من المتقدمين ومن بعدهم : أنهم جوزوا إطلاق " حدثنا ، وأخبرنا " في الرواية بالمناولة ، حكي ذلك عن ، الزهري ومالك ، وغيرهما ، وهو لائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم : أنهم جعلوا . عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعا
[ ص: 170 ] وحكي أيضا عن قوم مثل ذلك في الرواية بالإجازة .
وكان الحافظ - صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث - يطلق ( أخبرنا ) فيما يرويه بالإجازة . روينا عنه أنه قال : أنا إذا قلت : ( حدثنا ) فهو سماعي ، وإذا قلت : ( أخبرنا ) على الإطلاق فهو إجازة من غير أن أذكر فيه ( إجازة ، أو كتابة ، أو كتب إلي ، أو أذن لي في الرواية عنه ) . أبو نعيم الأصبهاني
وكان - صاحب التصانيف في علم الخبر - يروي أكثر ما في كتبه إجازة من غير سماع ، ويقول في الإجازة : ( أخبرنا ) ، ولا يبينها ، وكان ذلك - فيما حكاه أبو عبيد الله المرزباني الأخباري الخطيب - مما عيب به .
والصحيح - والمختار الذي عليه عمل الجمهور ، وإياه اختار أهل التحري ، والورع - المنع في ذلك من إطلاق ( حدثنا ، وأخبرنا ) ، ونحوهما من العبارات ، وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به ، بأن يقيد هذه العبارات فيقول : ( أخبرنا ، أو حدثنا فلان مناولة وإجازة ، أو أخبرنا إجازة ، أو أخبرنا مناولة ، أو أخبرنا إذنا ، أو في إذنه ، أو فيما أذن لي فيه ، أو فيما أطلق لي روايته عنه ) ، أو يقول : ( أجاز لي فلان ، أو أجازني فلان كذا وكذا ، أو ناولني فلان ) ، وما أشبه ذلك من العبارات .
وخصص قوم الإجازة بعبارات لم يسلموا فيها من التدليس ، أو [ ص: 171 ] طرف منه ، كعبارة من يقول في الإجازة ( أخبرنا مشافهة ) إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظا ، كعبارة من يقول : ( أخبرنا فلان كتابة ، أو فيما كتب إلي ، أو في كتابه ) إذا كان قد أجازه بخطه . فهذا - وإن تعارفه في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين - فلا يخلو عن طرف من التدليس ، لما فيه من الاشتراك ، والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه .
وورد عن الأوزاعي أنه خصص الإجازة بقوله : " خبرنا " بالتشديد ، والقراءة عليه بقوله " أخبرنا " .
واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق ( أنبأنا ) في الإجازة ، وهو الوليد بن بكر صاحب ( الوجازة في الإجازة ) . وقد كان ( أنبأنا ) عند القوم - فيما تقدم - بمنزلة ( أخبرنا ) ، وإلى هذا نحا الحافظ المتقن إذ كان يقول : " أنبأني فلان إجازة " ، وفيه أيضا رعاية لاصطلاح المتأخرين ، والله أعلم . أبو بكر البيهقي
وروينا عن الحافظ رحمه الله أنه قال : " الذي أختاره ، وعهدت عليه أكثر مشايخي ، وأئمة عصري أن يقول فيما عرض على المحدث ، فأجاز له روايته شفاها : " أنبأني فلان " ، وفيما كتب إليه المحدث من مدينة ، ولم يشافهه بالإجازة : " كتب إلي فلان " . الحاكم أبي عبد الله
قال : " وروينا عن أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان [ ص: 172 ] النيسابوري ) قال : سمعت أبي يقول : كل ما قال " قال لي فلان " فهو عرض ، ومناولة . البخاري
قلت : وورد عن قوم من الرواة التعبير عن الإجازة بقول : " أخبرنا فلان أن فلانا حدثه ، أو أخبره " . وبلغنا ذلك عن الإمام أنه اختاره ، أو حكاه ، وهذا اصطلاح بعيد عن الإشعار بالإجازة ، وهو فيما إذا سمع منه الإسناد ، فحسب ، وأجاز له ما رواه قريب ، فإن كلمة ( أن ) في قوله : " أخبرني فلان أن فلانا أخبره " ، فيها إشعار بوجود أصل الإخبار وإن أجمل المخبر به ، ولم يذكره تفصيلا . أبي سليمان الخطابي
قلت : وكثيرا ما يعبر الرواة المتأخرون عن بكلمة ( عن ) ، فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه : ( قرأت على فلان ، عن فلان ) ، وذلك قريب فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخه ، إن لم يكن سماعا فإنه شاك ، وحرف ( عن ) مشترك بين السماع ، والإجازة صادق عليهما ، والله أعلم . الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ المسمع
ثم اعلم أن المنع من إطلاق ( حدثنا ، وأخبرنا ) في الإجازة لا يزول بإباحة المجيز لذلك ، كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازتهم لمن يجيزون له ، إن شاء قال : ( حدثنا ) ، وإن شاء [ ص: 173 ] قال : ( أخبرنا ) فليعلم ذلك ، والعلم عند الله تبارك ، وتعالى .