المسألة الثانية  
حكم الرخصة   الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة ، والدليل على ذلك أمور :  
أحدها : موارد النصوص عليها كقوله تعالى :  فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه      [ البقرة : 173 ] .  
وقوله :  فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم      [ المائدة : 3 ] .  
وقوله :  وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   الآية      [ ص: 475 ]    [ النساء : 101 ] .  
وقوله :  من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان      [ النحل : 106 ] الآية إلى آخرها .  
وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله :  فلا إثم عليه      [ البقرة : 173 ] ، وقوله :  فإن الله غفور رحيم      [ المائدة : 3 ] ، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة ، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة ، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل ، كقوله تعالى :  لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة      [ البقرة : 236 ] .  
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم      [ البقرة : 198 ] .  
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء      [ البقرة : 235 ] .  
إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح ، وبجواز الإقدام خاصة .  
 [ ص: 476 ] وقال تعالى :  ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر      [ البقرة : 185 ] .  
وفي الحديث :  كنا نسافر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنا المقصر ومنا المتم ، ولا يعيب بعضنا على بعض     .  
والشواهد على ذلك كثيرة .  
 [ ص: 477 ] والثاني : أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ; حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة ، وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى :  هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا      [ البقرة : 29 ] .  
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق      [ الأعراف : 32 ] .  
متاعا لكم ولأنعامكم      [ النازعات : 33 ] .  
بعد تقرير نعم كثيرة .  
وأصل الرخصة السهولة ، ومادة [ رخ ص ] للسهولة واللين كقولهم : شيء رخص : بين الرخوصة ، ومنه الرخص ضد الغلاء ، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه ، فمال هو إلى ذلك ، وهكذا سائر استعمال المادة .  
والثالث : إنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا ، والحال بضد ذلك ; فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه ،      [ ص: 478 ] والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ، ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات : إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها ، فإذا كان كذلك ; ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين ، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة .  
فإن قيل : هذا معترض من وجهين :  
أحدهما : إن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة ; إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا ; فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا ، أما أولا ; فقد قال تعالى :  إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما      [ البقرة : 158 ] ، وهما مما يجب الطواف بينهما ، وقال تعالى :  ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى      [ البقرة : 203 ] ، والتأخر مطلوب طلب الندب ، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل ، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى .  
ولا يقال : إن هذه المواضع نزلت على أسباب ، حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث  عائشة ;  لأنا نقول : مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب ،      [ ص: 479 ] وهي توهم الجناح كقوله تعالى :  ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم      [ البقرة : 198 ] .  
وقوله :  ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم      [ النور : 61 ] إلى آخرها .  
وقوله :  ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج      [ النور : 61 ] . [ استدراك : 4 ] .  
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء      [ البقرة : 235 ] .  
جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج ، وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص ، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي .  
 [ ص: 480 ] والثاني : أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها ،  فالمضطر إذا خاف الهلاك   وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ، ونصوا على طلب الجمع  بعرفة   والمزدلفة   ، وأنه سنة ، وقيل في  قصر المسافر      : إنه فرض أو سنة أو مستحب ، وفي الحديث :  إن الله يحب أن تؤتى رخصه  ، وقال ربنا تعالى :  يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر      [ البقرة : 185 ] إلى كثير من ذلك ; فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل .  
فالجواب عن الأول : إنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة ; فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب ; فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم الإثم في الطواف  بالبيت   بالثياب ، وفي بعض المأكولات حتى نزل :  قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق      [ الأعراف : 32 ] ، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء      [ ص: 481 ] والأمهات ، وسائر من ذكر في الآية ، وفي التعريض بالنكاح في العدة ، وغير ذلك ، فكذلك قوله :  فلا جناح عليه أن يطوف بهما      [ البقرة : 158 ] يعطي معنى الإذن ; وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله :  إن الصفا والمروة من شعائر الله      [ البقرة : 158 ] أو من دليل آخر ; فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه .  
ولنا أن نحمله على خصوص السبب ، ويكون مثل قوله في الآية  من شعائر      [ الحج : 36 ] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع ; أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه ، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى ، وسائر ما جاء في هذا المعنى .  
والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين      [ ص: 482 ] متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية ، لا إلى الرخص بعينها ، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه ، أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه وردا لنفسه من ألم الجوع ; فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى :  ولا تقتلوا أنفسكم   كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه ، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه ، فلا شك أن الزوال عنه مطلوب ، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ، ومثل هذا لا يسمى رخصة ; لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي ، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه ، فلا يسمى رخصة من هذا الوجه ، وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه .  
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة ، وهذا فرد من أفراده ، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج ، وهذا فرد من أفرادها ; فلم تتحد الجهتان ، وإذا تعددت الجهات زال التدافع ، وذهب التنافي ،      [ ص: 483 ] وأمكن الجمع .  
وأما جمع  عرفة   والمزدلفة   ونحوه ، فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة ، بل هو عزيمة متعبد بها عنده ، ويدل عليه حديث  عائشة  ـ رضى الله عنها ـ في القصر :  فرضت الصلاة ركعتين ركعتين  الحديث ، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة ; إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام ، وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة ; لأنها شرعت في السماء خمسين ، ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة ، وذلك لا يكون كما تقدم ، فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة .  
وأما قوله :  إن الله يحب أن تؤتى رخصه  فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .  
 [ ص: 484 ] وأيضا ; فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية فلا تنافي .  
وأما قوله :  يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر      [ البقرة : 185 ] ، وما كان نحوه ; فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج ، وبالله التوفيق .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					