[ ص: 163 ] فصل
قد تبين وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين ، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية ، وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة . تعارض الأدلة في المسألة ،
لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي ، هي آداب شرعية ، وتخلقات حسنة ، يقر بها كل ذي عقل سليم ، فيكون لها اعتبار في الشريعة ، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة ، وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا .
وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة :
أحدها : إما حكاية ، وإما تعليما ، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد ثابتا غير محذوف ، كقوله تعالى : أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ، ومن العباد لله سبحانه ، يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة [ العنكبوت : 56 ] .
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 ] .
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .
يا أيها الناس [ الأعراف : 158 ] .
يا أيها الذين آمنوا [ البقرة : 104 ] .
فإذا أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى; جاء من غير حرف فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل ، والله منزه عن التنبيه .
[ ص: 164 ] وأيضا; فإن أكثر حروف النداء للبعيد ، ومنها " يا " التي هي أم الباب ، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا ، لقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [ البقرة : 186 ] الآية .
ومن الخلق عموما ، لقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [ المجادلة : 7 ] .
وقوله : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ ق : 16 ] .
فحصل من هذا التنبيه على أدبين :
أحدهما : ترك حرف النداء .
والآخر : استشعار القرب .
كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة ، وهو العبد ، والدلالة على ارتفاع شأن المنادى ، وأنه منزه عن مداناة العباد; إذ هو في دنوه عال ، وفي علوه دان ، سبحانه !
والثاني : أن فأتى في النداء القرآني بلفظ : الرب في عامة الأمر; تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضى للحال المدعو بها ، وذلك أن الرب في اللغة : هو القائم بما يصلح المربوب; فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد : نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] إلى آخرها ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] ، [ ص: 165 ] وإنما أتى قوله تعالى : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ الأنفال : 32 ] من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به ، بل هو مما ينافيه ، بخلاف الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله : قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء [ المائدة : 114 ] الآية; فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا .
والثالث : أنه كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة ، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط ، وكما قال في نحوه : أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها; كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع ، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل .
والرابع : الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه; كقوله تعالى : أنه أتى فيه بالالتفات الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ الفاتحة : 2 - 4 ] .
ثم قال : إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] .
وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا; كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة [ يونس : 22 ] .
[ ص: 166 ] وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 - 2 ] حيث عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المقدار من هذا العتاب ، لكن على حال تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ، ثم رجع الكلام إلى الخطاب ، إلا أنه بعتاب أخف من الأول ، ولذلك ختمت الآية بقوله : كلا إنها تذكرة [ عبس : 11 ] .
والخامس : وإن كان هو الخالق لكل شيء ، كما قال بعد قوله : الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى ، قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء [ آل عمران : 26 ] إلى قوله بيدك الخير [ آل عمران : 26 ] ولم يقل : " بيدك الخير والشر " ، وإن كان قد ذكر القسمين معا; لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر ، نعم ، قال في أثره : إنك على كل شيء قدير [ آل عمران : 26 ] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه; حتى جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 167 ] وقال والخير في يديك ، والشر ليس إليك إبراهيم عليه السلام : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين [ الشعراء : 78 ] إلخ ، فنسب إلى رب العالمين الخلق ، والهداية ، والإطعام ، والسقي ، والشفاء ، والإماتة ، والإحياء ، وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض ، فإنه سكت عن نسبته إليه .
والسادس : أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة; كما في قوله تعالى : الأدب في المناظرة وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] .
وقوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ الزخرف : 81 ] .
قل إن افتريته فعلي إجرامي [ هود : 35 ] .
وقوله : قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون [ الزمر : 43 ] .
أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ المائدة : 104 ] .
لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية .
والسابع : وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية; كقوله تعالى : الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها ، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .
فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده [ المائدة : 52 ] .
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] .
[ ص: 168 ] ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى : لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .
لعلكم تذكرون [ الأنعام : 152 ] .
وما أشبه ذلك ، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا; فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر ، بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور - أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم ، دخولا في غمار العامة ، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها ، وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات ، وقد كان رسول الله يعلم بأخبار كثير من المنافقين ، ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ، ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون; لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر; فما نحن فيه نوع من هذا الجنس ، والأمثلة كثيرة فإذا كان كذلك; ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى ، وهو توهين لما تقدم اختياره .
[ ص: 169 ] والجواب : أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني ، وإنما استفيد من جهة أخرى ، وهي جهة الاقتداء بالأفعال ، والله أعلم .