الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس ، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق ، واتصاف بمحاسن شيم ، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه ، وأبطلت ما هو باطل ، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ، ومضار ما يضر منه .

              فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر ، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها ، وتعرف منازل سير النيرين ، وما يتعلق بهذا [ ص: 113 ] المعنى ، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر [ الأنعام : 97 ] .

              وقوله : وبالنجم هم يهتدون [ النحل : 16 ] .

              وقوله : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار [ يس : 39 - 40 ] .

              وقوله : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ يونس : 5 ] .

              وقوله : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة [ الإسراء : 12 ] الآية .

              وقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ الملك : 5 ] .

              وقوله : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] .

              وما أشبه ذلك .

              [ ص: 114 ] ومنها : علوم الأنواء ، وأوقات نزول الأمطار ، وإنشاء السحاب ، وهبوب الرياح المثيرة لها ، فبين الشرع حقها من باطلها ، فقال تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده [ الرعد : 12 - 13 ] الآية .

              وقال : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ الواقعة : 68 - 69 ] .

              وقال : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [ النبأ : 14 ] .

              وقال : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] .

              خرج الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] ; قال شكركم ، تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا [ ص: 115 ] وكذا .

              وفي الحديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي الحديث في الأنواء .

              [ ص: 116 ] وفي الموطأ مما انفرد به : إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت; فتلك عين غديقة .

              [ ص: 117 ] وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته : كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال له العباس : بقي من نوئها كذا وكذا .

              فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار .

              وقال تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه [ الحجر : 22 ] الآية .

              وقال : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها [ فاطر : 9 ] .

              إلى كثير من هذا .

              ومنها : علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية ، وفي القرآن من ذلك ما هو كثير ، وكذلك في السنة ، ولكن القرآن احتفل في ذلك ، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم ، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون ، [ ص: 118 ] قال تعالى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم [ آل عمران : 44 ] الآية .

              وقال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا [ هود : 49 ] .

              وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت وغير ذلك مما جرى .

              ومنها : ما كان أكثره باطلا أو جميعه; كعلم العيافة ، والزجر ، والكهانة ، وخط الرمل ، والضرب بالحصى ، والطيرة; فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل [ ص: 119 ] ونهت عنه; كالكهانة ، والزجر ، وخط الرمل ، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب; فإن الكهانة والزجر كذلك ، وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل; فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض ، وهو الوحي والإلهام . وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام - جزء من النبوة ، وهو الرؤيا الصالحة ، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة .

              [ ص: 120 ] ومنها : علم الطب; فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل ، بل مأخوذ من تجاريب الأميين ، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون ، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة ، لكن على وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير; فقال تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [ الأعراف : 31 ] .

              وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء ، وأبطل من [ ص: 121 ] ذلك ما هو باطل; كالتداوي بالخمر ، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا .

              ومنها : التفنن في علم فنون البلاغة ، والخوض في وجوه الفصاحة ، والتصرف في أساليب الكلام ، وهو أعظم منتحلاتهم; فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم ، قال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ الإسراء : 88 ] .

              [ ص: 122 ] ومنها : ضرب الأمثال ، وقد قال تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ الروم : 58 ] ; إلا ضربا واحدا ، وهو الشعر ، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه ، قال تعالى في حكايته عن الكفار : أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين [ الصافات : 36 ] ; أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ، ولذلك قال : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس : 69 ] الآية .

              وبين معنى ذلك في قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ الشعراء : 224 - 226 ] .

              فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ، ولكنه هيمان على غير تحصيل ، وقول لا يصدقه فعل ، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى .

              فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية .

              وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها; فهو أول ما خوطبوا به ، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية ، من حيث كان آنس لهم ، [ ص: 123 ] وأجري على ما يتمدح به عندهم; كقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى [ النحل : 90 ] إلى آخرها .

              وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ الأنعام : 151 ] إلى انقضاء تلك الخصال .

              وقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف : 32 ] .

              وقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق [ الأعراف : 33 ] .

              إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى .

              لكن أدرج فيها ما هو أولى ؛ من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة ، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم ، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك ، أو فيه من المفاسد ما يربي على المصالح التي توهموها; كما قال تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ المائدة : 90 ] .

              ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر; من إيقاع العداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا; لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان ، وتبعث البخيل على البذل ، وتنشط الكسالى ، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين ، والعطف على المحتاجين ، وقد قال تعالى : [ ص: 124 ] يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 219 ] .

              والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ، ولهذا قال عليه السلام : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .

              إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين :

              أحدهما : ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول ، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي ، وهو :

              الضرب الثاني : وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر; حتى كان من آخره تحريم الربا ، وما أشبه ذلك ، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق ، وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة .

              [ ص: 125 ] ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام ، كما قالوا في القراض ، وتقدير الدية ، وضربها على العاقلة ، وإلحاق الولد بالقافة ، والوقوف بالمشعر الحرام ، والحكم في الخنثى ، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين ، والقسامة ، وغير ذلك مما ذكره العلماء .

              ثم نقول : لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون; من سماء ، وأرض ، وجبال ، وسحاب ، ونبات ، وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم ، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها ، وأن ما جاء به محمد هي تلك بعينها ، كقوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا [ الحج : 78 ] .

              وقوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا [ آل عمران : 67 ] الآية .

              غير أنهم غيروا جملة منهم ، وزادوا ، واختلفوا ، فجاء تقويمها من جهة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم ، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا ، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي; كقوله : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود [ الواقعة : 27 - 30 ] إلى آخر الآيات .

              وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم; كالماء ، [ ص: 126 ] واللبن ، والخمر ، والعسل ، والنخيل ، والأعناب ، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز ، واللوز ، والتفاح ، والكمثرى ، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم ، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة .

              وقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] .

              فالقرآن كله حكمة ، وقد كانوا عارفين بالحكمة ، وكان فيهم حكماء; فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله ، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير; كقس بن ساعدة وغيره ، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة; وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة .

              وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير; تجد الأمر كما تقرر ، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية