فصل  
وقد تكون  المشقة الداخلة على المكلف من خارج ، لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه;   فهاهنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها ، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس ، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا ، وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء :  لا يسأل عما يفعل وهم يسألون      [ الأنبياء : 23 ] ، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق ، رفعا للمشقة اللاحقة ، وحفظا على الحظوظ التي أذن لهم فيها ، بل      [ ص: 261 ] أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع; تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه ، وحفظا على تكميل الخلوص في التوجه إليه ، والقيام بشكر النعم .  
فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش ، والحر والبرد ، وفي التداوي عند وقوع الأمراض ، وفي التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره ، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها ، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح ، ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية ، وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية ، كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله ، وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة .  
إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه; فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة ، كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد ، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ، ولا يعتبر هنا جهة التسليط والابتلاء; لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغى في التكليف ، وإن كان معتبرا في العقد الإيماني ، كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء ، وإن كان في نفسه ابتلاء; لأنه طاعة أو معصية من جهة      [ ص: 262 ] العبد ، خلق للرب; فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد ، فليس له في الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر ، فكذلك هنا .  
وأما إن لم يثبت انحتام الدفع; فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء ، وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي ، فيستسلم العبد للقضاء ، ولذلك لما لم يكن  التداوي   محتما تركه كثير من السلف الصالح ، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض ، كما في حديث السوداء المجنونة التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها; فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك ، وكما في الحديث :  ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون     .  
ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب ، كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام :  تداووا; فإن الذي أنزل الداء أنزل      [ ص: 263 ] الدواء  وأما إن ثبت الإباحة; فالأمر أظهر .  
وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ ، وبقي الكلام على الوجه الرابع ، وذلك مشقة مخالفة الهوى ، وهي :  
 [ ص: 264 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					