فصل
قال ابن العربي : " إذا كان في نازلة عامة في الناس ، فإنه يسقط ، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفي بعض أصول الحرج اعتباره " انتهى ما قال . الشافعي
وهو مما ينظر فيه ، فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد ، فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه إن كان من المعتاد ، فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه ، وإلا لزم في أصل التكليف ، فإن تصور وقوع اختلاف; فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد ، أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما .
وأيضا; فتسميته خاصا يشاح فيه ، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص; إذ [ ص: 274 ] ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض .
وإن عنى بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة; فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه ، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم ، وقد شرع فيه التخفيف ، فهذا عام ، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام ، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض ، إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ، ومنهم من يقدر على ذلك ، ومنهم من يقدر على الصوم ، ومنهم من لا يقدر ، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ، ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة ، فالظاهر أنه خاص ، ولكن لا يخالف فيه مالك إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد ، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ، ولا يخالف فيه الشافعي; مالك أيضا ، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص ، وإلا; فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام ، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد ، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين; فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة الشافعي خزيمة; فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك .
فإن قيل : لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم ، وما كان خاصا ببعض الأقطار ، أو بعض الأزمان ، أو بعض الناس ، وما أشبه [ ص: 275 ] ذلك .
فالجواب : إن هذا أيضا مما ينظر فيه ; فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص ; لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين ، أو بعض الأزمان المعينة ، أو الأمكنة المعينة ، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة ، أو على وجه لا يقاس عليه غيره ; كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة ، وكتخصيص الكعبة [ ص: 276 ] بالاستقبال ، والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد ; فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت .
فإن قيل : ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره .
قيل : وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر ; فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم ، بل جهة العموم أولى ; لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم ; فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده ; فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض ، وإن سقط ، سقط في البعض ، وهذا متفق عليه بين الإمامين ، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك .
فإن قيل : لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا ، وهو عام ; كالتراب والطحلب وشبه ذلك ، أو خاص كما إذا كان عدم [ ص: 277 ] الانفكاك خاصا ببعض المياه ، فإن حكم الأول ساقط لعمومه ، والثاني مختلف فيه لخصوصه ، وكذلك اختلف في ماء البحر : هل هو طهور أم لا ؟ لأنه متغير خاص ، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف ، والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط ، وإن كان خاصا ففيه خلاف ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها من بني فلان ، أو من البلد الفلاني ، أو من السودان ، أو من البيض ، أو كل بكر أتزوجها ، أو كل ثيب ، وما أشبه ذلك ، فهي طالق ، ومثله كل أمة اشتريتها ، فهي حرة ، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص ، كما لو قال : كل حرة أتزوجها طالق ، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط ، فإن قال فيه : كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا ، وجرى فيه الخلاف ، وأشباه ذلك من المسائل .
فالجواب : أن هذا ممكن ، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه ; إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عنمالك بعدم الاعتبار ، وعن بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة ، وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه ، لا [ ص: 278 ] بالنسبة إلى نظر الأصول ، إلا أنه إذا ثبت الخلاف ، فهو المراد هنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال ; فإن الشافعي كالأمثلة المتقدمة ، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه ; فليس بحرج عام بإطلاق ، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر ، وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة ، لاختلاف أحوال الناس في ذلك . الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه ،
وأيضا ; فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها ; فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين ، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة : الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية ، ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه ، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد ، والله أعلم .