nindex.php?page=treesubj&link=20472الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم ; فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية ، أو معينة في طريقها ، أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك ، لا مستقلة بالدلالة ; لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي ، والعقل ليس بشارع ، وهذا مبين في علم الكلام ، فإذا كان كذلك ; فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ، ووجود القطع فيها - على الاستعمال المشهور - معدوم أو في غاية الندور
[ ص: 28 ] [ أعني : في آحاد الأدلة ] ; فإنها إن كانت من أخبار الآحاد ; فعدم إفادتها القطع ظاهر ، وإن كانت متواترة ; فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني ، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا ; فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو ، وعدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، والنقل الشرعي أو العادي ، والإضمار ، والتخصيص للعموم ، والتقييد للمطلق ، وعدم الناسخ ، والتقديم والتأخير ، والمعارض العقلي ، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر ، وقد اعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية في أنفسها ، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة ; فقد تفيد اليقين ، وهذا كله نادر أو متعذر .
وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع ; فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق ، ولأجله أفاد التواتر القطع ، وهذا نوع منه ، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم ؛ فهو الدليل المطلوب ، وهو شبيه بالتواتر المعنوي ، بل هو كالعلم
[ ص: 29 ] بشجاعة علي - رضي الله عنه - وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما .
ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس ، كالصلاة ، والزكاة ، وغيرهما ، قطعا ، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=72أقيموا الصلاة أو ما أشبه ذلك لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه ، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين ، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين .
ومن هاهنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع ; لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب .
وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة ، فهو راجع إلى هذا المساق ; لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر ،
[ ص: 30 ] وهي مع ذلك مختلفة المساق ، لا ترجع إلى باب واحد ; إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه ، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا ، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع ; فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب وهي مآخذ الأصول ; إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه ، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين ; فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها ، وبالأحاديث على انفرادها ; إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع ، فكر عليها بالاعتراض نصا نصا ، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع ، وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة ، ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض ; لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة ; إلا أن نشرك العقل ، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع ; فلا بد من هذا الانتظام
[ ص: 31 ] في تحقيق الأدلة الأصولية .
فقد اتفقت الأمة ، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على
nindex.php?page=treesubj&link=21872الضروريات الخمس - وهي :
nindex.php?page=treesubj&link=21876الدين ،
nindex.php?page=treesubj&link=21873والنفس ،
nindex.php?page=treesubj&link=21875والنسل ،
nindex.php?page=treesubj&link=21874والمال ،
nindex.php?page=treesubj&link=21877والعقل ، وعلمها عند الأمة كالضروري ، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه ، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد ، ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه ، وأن يرجع أهل الإجماع إليه ، وليس كذلك ; لأن كل واحد منها بانفراده ظني ، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار ، كذلك لا يتعين هنا ؛ لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد ، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين ، وأحوال دلالات المنقولات ، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه ، وكثرة البحث وقلته إلى غير ذلك .
فنحن إذا نظرنا في الصلاة ; فجاء فيها :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=72أقيموا الصلاة على وجوه ، وجاء مدح المتصفين بإقامتها ، وذم التاركين لها ، وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، وقتال من تركها أو عاند في تركها ، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ، وكذلك النفس : نهي عن قتلها ، وجعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه ، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك
[ ص: 32 ] كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان ، ووجب سد رمق المضطر ، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه ، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك ، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس ، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير ، إلى سائر ما ينضاف لهذا [ المعنى ] - علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل ، وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة .
وبهذا امتازت الأصول من الفروع ; إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة ، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن ، بخلاف الأصول ; فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق ، لا من آحادها على الخصوص .
nindex.php?page=treesubj&link=20472الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْعِلْمِ ; فَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً عَلَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، أَوْ مُعِينَةً فِي طَرِيقِهَا ، أَوْ مُحَقِّقَةً لِمَنَاطِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، لَا مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا نَظَرٌ فِي أَمْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِشَارِعٍ ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَالْمُعْتَمَدُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَوُجُودُ الْقَطْعِ فِيهَا - عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ - مَعْدُومٌ أَوْ فِي غَايَةِ النُّدُورِ
[ ص: 28 ] [ أَعْنِي : فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ ] ; فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ; فَعَدَمُ إِفَادَتِهَا الْقَطْعَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً ; فَإِفَادَتُهَا الْقَطْعَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ جَمِيعُهَا أَوْ غَالِبُهَا ظَنِّيٌّ ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا ; فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ ، وَالْإِضْمَارِ ، وَالتَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ ، وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ مَعَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَذِّرٌ ، وَقَدِ اعْتَصَمَ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهَا بِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا ، لَكِنْ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أَوْ مَنْقُولَةٌ ; فَقَدْ تُفِيدُ الْيَقِينُ ، وَهَذَا كُلُّهُ نَادِرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ .
وَإِنَّمَا الْأَدِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هُنَا الْمُسْتَقْرَأَةُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ تَضَافَرَتْ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى أَفَادَتْ فِيهِ الْقَطْعَ ; فَإِنَّ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِافْتِرَاقِ ، وَلِأَجْلِهِ أَفَادَ التَّوَاتُرُ الْقَطْعَ ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ ، فَإِذَا حَصَلَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ ؛ فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ ، بَلْ هُوَ كَالْعِلْمِ
[ ص: 29 ] بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُودِ حَاتِمٍ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمَا .
وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَغَيْرِهِمَا ، قَطْعًا ، وَإِلَّا فَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=72أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَجْرَدِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ ، لَكِنْ حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ مَا صَارَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ ضَرُورِيًّا فِي الدِّينِ ، لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا شَاكٌّ فِي أَصْلِ الدِّينِ .
وَمِنْ هَاهُنَا اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا عَلَى دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَقَاطِعٌ لِهَذِهِ الشَّوَاغِبِ .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَدِلَّةَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً أَوْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ حُجَّةً ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَسَاقِ ; لِأَنَّ أَدِلَّتَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ ،
[ ص: 30 ] وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةُ الْمَسَاقِ ، لَا تَرْجِعُ إِلَى بَابٍ وَاحِدٍ ; إِلَّا أَنَّهَا تَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَى النَّاظِرِ الْأَدِلَّةُ عَضَّدَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَصَارَتْ بِمَجْمُوعِهَا مُفِيدَةً لِلْقَطْعِ ; فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهِيَ مَآخِذُ الْأُصُولِ ; إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ رُبَّمَا تَرَكُوا ذِكْرَ هَذَا الْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهَ عَلَيْهِ ، فَحَصَلَ إِغْفَالُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; فَاسْتَشْكَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَاتِ عَلَى حِدَتِهَا ، وَبِالْأَحَادِيثِ عَلَى انْفِرَادِهَا ; إِذْ لَمْ يَأْخُذْهَا مَأْخَذَ الِاجْتِمَاعِ ، فَكَّرَ عَلَيْهَا بِالِاعْتِرَاضِ نَصًّا نَصًّا ، وَاسْتَضْعَفَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْقَطْعُ ، وَهِيَ إِذَا أُخِذَتْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ غَيْرُ مُشْكِلَةٍ ، وَلَوْ أُخِذَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ مَأْخَذَ هَذَا الْمُعْتَرِضِ ; لَمْ يَحْصُلْ لَنَا قَطْعٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَلْبَتَّةَ ; إِلَّا أَنْ نُشْرِكَ الْعَقْلَ ، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الشَّرْعِ ; فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِانْتِظَامِ
[ ص: 31 ] فِي تَحْقِيقِ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ .
فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ ، بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=21872الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ - وَهِيَ :
nindex.php?page=treesubj&link=21876الدِّينُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21873وَالنَّفْسُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21875وَالنَّسْلُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21874وَالْمَالُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=21877وَالْعَقْلُ ، وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ ، بَلْ عُلِمَتْ مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ ، وَأَنْ يَرْجِعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ظَنِّيٌّ ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فِي التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ خَبَرَ وَاحِدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَخْبَارِ ، كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ هُنَا ؛ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ عَلَى فَرْضِ الِانْفِرَادِ ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ ، وَأَحْوَالِ دَلَالَاتِ الْمَنْقُولَاتِ ، وَأَحْوَالِ النَّاظِرِينَ فِي قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِهِ ، وَكَثْرَةِ الْبَحْثِ وَقِلَّتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
فَنَحْنُ إِذَا نَظَرْنَا فِي الصَّلَاةِ ; فَجَاءَ فِيهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=72أَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَلَى وُجُوهٍ ، وَجَاءَ مَدْحُ الْمُتَّصِفِينَ بِإِقَامَتِهَا ، وَذَمُّ التَّارِكِينَ لَهَا ، وَإِجْبَارُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِهَا وَإِقَامَتِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ، وَقِتَالُ مَنْ تَرَكَهَا أَوْ عَانَدَ فِي تَرْكِهَا ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ النَّفْسُ : نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا ، وَجُعِلَ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ ، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ الْمَقْرُونَةِ بِالشِّرْكِ
[ ص: 32 ] كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ مَقْرُونَةً بِالْإِيمَانِ ، وَوَجَبَ سَدُّ رَمَقِ الْمُضْطَرِّ ، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ وَالْقِيَامُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ ، وَأُقِيمَتِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ وَالْمُلُوكُ لِذَلِكَ ، وَرُتِّبَتِ الْأَجْنَادُ لِقِتَالِ مَنْ رَامَ قَتْلَ النَّفْسِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْخَائِفِ مِنَ الْمَوْتِ سَدُّ رَمَقِهِ بِكُلِّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، إِلَى سَائِرِ مَا يَنْضَافُ لِهَذَا [ الْمَعْنَى ] - عَلِمْنَا يَقِينًا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمَ الْقَتْلِ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ .
وَبِهَذَا امْتَازَتِ الْأُصُولُ مِنَ الْفُرُوعِ ; إِذْ كَانَتِ الْفُرُوعُ مُسْتَنِدَةً إِلَى آحَادِ الْأَدِلَّةِ وَإِلَى مَآخِذَ مُعَيَّنَةٍ ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى الظَّنِّ ، بِخِلَافِ الْأُصُولِ ; فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ بِإِطْلَاقٍ ، لَا مِنْ آحَادِهَا عَلَى الْخُصُوصِ .