فصل
وأما أن فكما إذا قيل لك : لم تكتسب ؟ قلت : لأقيم صلبي ، وأقوم في حياة نفسي وأهلي أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب ، فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح ; لأنه التفات إلى العادات الجارية ، وقد قال تعالى : للمكلف القصد إلى المسبب الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله [ الجاثية : 12 ] .
وقال : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله [ الروم : 23 ] .
وقال : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
[ ص: 318 ] فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو الاكتساب ، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار ، أشعر بصحة ذلك القصد ، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا ; كقوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات [ الطلاق : 11 ] ، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب .
وأيضا ; فإنما محصول هذا أن يبتغى ما يهيئ الله له بهذا السبب ، فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ، ويصلح به حاله ، وهذا لا نكير فيه شرعا ، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنه شرعت لمصالح العباد ، فالداخل تحته مقتض لما وضعت له ، فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع ، والمحظور إنما هو أن يقصد خلاف ما قصده ، مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع ، ولا يلزم منه عقد مخالف ، فالفعل موافق ، والقصد [ ص: 319 ] موافق ، فالمجموع موافق . فالتكليف كله إما لدرء مفسدة ، وإما لجلب مصلحة أو لهما معا ،
فإن قيل : هل يستتب هذان الوجهان في جميع الأحكام العادية ، والعبادية أم لا ؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد ، وهي ظاهرة في العاديات ، وغير ظاهرة في العباديات ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسببات ، والقصد إليها معتبر في العاديات ، ولا سيما في المجتهد ; فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ، ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس ، وذلك غير صحيح ; فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام ، والمعاني هي مسببات الأحكام ، أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها ، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها ، [ ص: 320 ] كان ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها ، والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء ، في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية . قصد المسببات لازم في العاديات ، لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات ; فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى ;
فالجواب أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء ، وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه ; لتقع المصلحة المشروع لها الحكم ، هذا نظره خاصة ، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه ، فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد ، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر كالمقلد سواء ، فإذا سمع قوله عليه الصلاة والسلام : متفق عليه نظر إلى علة منع القضاء ، فرآه الغضب ، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم ، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين ، والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن ، فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك ، وكان قاضيا امتنع من القضاء بمقتضى النهي ; فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء ; حصل مقصود الشارع ، وإن لم يقصده القاضي ، وإن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج ; حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده ، وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال ، وما لم يفهم ; فهو [ ص: 321 ] كالعبادات بالنسبة إلى الجميع ، وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة ، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل ، ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والأخروية على الجملة ; فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم . لا يقضي القاضي وهو غضبان