الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 94 ] المتواتر ] الخامس : المتواتر ، وهو لغة : ترادف الأشياء المتعاقبة واحد بعد واحد بمهلة ، واصطلاحا : خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم عن محسوس ، وإنما قال : " من حيث كثرتهم " ليحترز به عن خبر قوم يستحيل كذبهم لسبب آخر خارج عن الكثرة ، وله شروط منها ما يرجع إلى المخبرين ، ومنها ما يرجع إلى السامعين . [ شروط المتواتر التي ترجع إلى المخبرين ] فالذي رجع إلى المخبرين أمور : أحدها : أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين ، فلو كانوا ظانين ذلك لم يفد القطع ، هكذا شرطه جماعة منهم القاضي أبو بكر . وقال ابن الحاجب : إنه غير محتاج إليه ; لأنه إن أريد علم الجميع فباطل ; لجواز أن يكون بعضهم ظاهرا ومع ذلك يحصل العلم ، وإن أريد [ ص: 95 ] علم البعض فلازم من شرط الحس .

                                                      ثانيها : أن يعلموا ذلك عن ضرورة ، إما بعلم الحس من مشاهدة أو سماع ، وإما أخبار متواترة ; لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه ، فلا يحصل به العلم . قال الأستاذ أبو منصور : فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه ، بالنظر أو الاستدلال أو عن شبهة ، فإن ذلك لا يوجب علما ضروريا ; لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية بحدوث العالم ، وتوحيد الصانع ، ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يقع لهم العلم بذلك ; لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار ، فإن المطلوب صدور عن العلم الضروري ، ثم قد يترتب على الحواس ودركها ، وقد يحصل عن قرائن الأحوال ، ولا أثر للحس فيها على الاختصاص ، فإن الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن اصفرار المحبوب والمرغوب ، وإنما العقل يدرك تمييز هذه الأحوال . قال : فالوجه اشتراط صدور الأخبار عن البديهة والاضطرار ، هذا كلامه وغايته الحس أيضا ; لأن القرائن المفيدة للعلم الضروري مستندة إلى الحس .

                                                      ثالثها : أن تكون مشاهدة الشاهدين للمخبر عنه حقيقة وصحيحة ، فلا تكون على سبيل غلط الحس ، فلذلك لا يلتفت إلى إخبار النصارى بصلب المسيح . رابعها : أن يكون بصفة يوثق معها بقولهم ، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك الخبر لم يلتفت إليه . خامسها : أن يبلغ عدد المخبرين إلى مبلغ يمتنع عادة تواطؤهم على [ ص: 96 ] الكذب ، وذلك يختلف باختلاف القرائن والوقائع والمخبرين ، ولا يتقيد بعدد معين ، بل هذا القدر كاف ، ومنهم من عبر عنه بأن تكون شواهد أحوالهم تنفي عن مثلهم المواطأة والغلط ، ولا خلاف في هذا ، ولكن اختلفوا : هل يشترط فيه عدد معين ؟ والجمهور على أنه ليس فيه حصر ، وإنما الضابط حصول العلم ، فمتى أخبر هذا الجمع ، وأفاد خبرهم العلم ، علمنا أنه متواتر ، وإلا فلا ، لكن منهم من قطع به في جانب النفي ، ولم يقطع في جانب الإثبات ، فقال بعدم إفادة عدد معين له ، وتوقف القاضي أبو الطيب ، وقال : يجب أن يكونوا أكثر من أربعة ; لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما سأل الحاكم عن عدالتهم ، إذا شهدوا عنده ، وقال ابن السمعاني : ذهب أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة ، فما زاد .

                                                      فعلى هذا لا يجوز أن يتواتر بأربعة ; لأنه عدد معين في الشهادة الموجبة لغلبة الظن دون العلم . ا هـ .

                                                      وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الجبائي ، وذكر بعضهم أن مستنده عدد أولي العزم ، وهم على الأشهر : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، والمشترطون للعدد اختلفوا واضطربوا اضطرابا كثيرا ، فقيل : يشترط عشرة ، ونسب للإصطخري ، والذي في القواطع " عنه لا يجوز أن يتواتر بأقل من عشرة ، وإن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد ; لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد ، والعشرة فما زاد جمع الكثرة . [ ص: 97 ] قال : وقال قوم من غير أصحاب الشافعي : أقل ما يتواتر به الخبر اثنا عشر ; لأنهم عدد النقباء .

                                                      ونقل القرافي عن غيره اعتبار العشرة بعدد بيعة أهل الرضوان ، وهو وهم لما سيأتي ، وقيل : عشرون ، أي إذا كانوا عدولا ، كذا قيده الصيرفي لقوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون } ونقل عن أبي الهذيل وغيره من المعتزلة ، وقيل : أربعون ، وقيل : سبعون ، لقوله تعالى : { واختار موسى قومه سبعين رجلا } ، وقيل : ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدد أهل بدر ، وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم للمشركين ، ووقع في التقريب " للقاضي والبرهان للإمام وغيرهما تقييدهم بثلاثمائة وثلاثة عشر ، وحكى الحافظ الدمياطي وغيره ذلك ، وقولا آخر أنهم ثلاثمائة وعشرة رجال ، والجمع بين القولين بأن الذين خرجوا مع النبي في غزوة بدر للمقاتلة ثلاثمائة وخمسة رجال ، ولم يحضر الغزوة ثمانية من المؤمنين أدخلهم النبي عليه السلام في حكم عداد الحاضرين ، وأجرى عليهم حكمهم ، فكانت الجملة ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فاعرف ذلك .

                                                      وقيل : عدد أهل بيعة الرضوان . قال إمام الحرمين : وهم ألف وسبعمائة . قلت : وفي صحيح البخاري عن جابر أن عددهم خمس عشرة مائة ، وفي رواية ألف وأربعمائة ، ثم روي عن قتادة ، قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال خمس عشرة مائة . قلت : قال جابر بن عبد الله : كانوا أربع عشرة مائة . قال رحمه الله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة . قال البيهقي : هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول : خمس عشرة مائة ، ثم ذكر الوهم ، وقال : أربع عشرة مائة . [ ص: 98 ] وقيل : لا بد من خبر كل الأمة وهو الإجماع ، حكاه القاضي في التقريب " عن ضرار بن عمرو ، قال طوائف من الفقهاء : ينبغي أن يبلغوا مبلغا عظيما ، أي لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد .

                                                      قال إمام الحرمين : وهو سرف ، والكل ضعيف لتعارض بعضها ببعض ، ولا مرجح لأحدها . قال إمام الحرمين : ولو عن مرجح ، فليس ذلك من مدلول الخبر المقطوع به ، فإن الترجيحات ثمراتها غلبة الظنون في مطرد العادة ، وقال ابن السمعاني : القولان الأولان أمثل الأقاويل ، والباقي ليس بشيء ، أي فإنها تحكمات فاسدة ، لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ، وتعارض أقوالهم دليل على فسادها ، وأما استخراج أبي الهذيل من قوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون } فمردود ; لأن هذا منسوخ ، ثم جعل الله الواحد يقوم بإزاء الاثنين ، فهذه الآية بخبر الواحد أولى ; لأن فرض العشرين أن يقوموا لمائتين منسوخ ، وصار ثبوت الواحد للاثنين ، فلو احتج بها عليه في ثبوت خبر الواحد لكان أقرب الأدلة ، وباقي الأدلة لا تدل ; لأنها أمور اتفاقية . فالحق عدم التعيين ، مع القطع بأنه لا بد من عدد يحصل بخبرهم العلم . وهل ذلك العدد المفيد للعلم في واقعة يتصور أن لا يفيد في واقعة أخرى ؟ قال القاضي : ذلك محال ، بل لا بد إلى تحصيل ذلك العدد ، العلم لكل من سمعه ، ومهما حصل هذا العلم لشخص فلا بد من حصوله لجميع الأشخاص ; لتحقق الموجب للعمل عند كل واحد منهم ، وهذا بناه على أن الإخبار بمجرده يفيد العلم عادة دون القرائن ، ومنع إفادته العلم من حيث [ ص: 99 ] انضمام القرائن التي لم يجعل لها أثر . قال الغزالي : وهذا غير مرضي ; لأن مجرد الإخبار يجوز أن يورث العلم ، وإن لم تكن قرينة ، ومجرد القرائن أيضا قد تورث العلم ، وإن لم يكن معها إخبار كعلمنا بخجل الخجل ، ووجل الوجل ، فلا يبعد أن تضم القرائن إلى الأخبار ، فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد ، فيحصل العلم بمجموعهما قال : وهذا مما يقطع به ، والتجربة تدل عليه .

                                                      وتوسط الهندي ، فقال : الحق أن يقال : إن كان حصول العلم في الصورة التي حصل العلم فيها بمجرد الخبر من غير احتفاف قرينة به لا من جهة المخبرين ، ولا من جهة السامعين ، حالية كانت أو مالية ، كان الإطراد واجبا ، وإن لم يكن بمجرده ، بل بانضمام أمر آخر إليه فلا يجب الإطراد . سادسها : أن يتفقوا على الخبر من حيث المعنى ، وإن اختلفوا في العبارة ، فإن اختلفوا في المعنى بطل تواترهم .

                                                      وشرط ابن عبدان في كتابه المسمى " بالشرائط " في الناقلين شرطين : أحدهما : العدالة ، قال : فلا يقبل التواتر من الفساق ، ومن ليس بعدل على الصحيح من المذهب ، ومن أصحابنا من قبله . والثاني : الإسلام ، قال : فالتواتر من الكفار لا يصح على الصحيح من المذهب ; لأنه لا خلاف أن أخبار الآحاد لا تقبل من الكفار والفساق وهي لا توجب العلم ، فالتواتر الذي يوجب العلم أولى أن لا يقبل منهم ، ومن أصحابنا من قال : يقبل تواتر الكفار . ا هـ . والصحيح خلاف ما قال . قال سليم في التقريب " : لا يشترط في وقوع العلم بالتواتر صفات المخبرين ، بل يقع ذلك بإخبار المسلمين ، [ ص: 100 ] والكفار والعدول والفساق ، والأحرار والعبيد ، والكبار والصغار ، إذا اجتمعت الشروط ، وكذا قال أبو الحسين بن القطان في كتابه : ذهب قوم من أصحابنا إلى أن شرط التواتر في الكفار أن يكون منهم مسلمون للعصمة ، وعندنا لا فرق بين الكفار والمسلمين في الخبر ، وإنما غلطت هذه الفرقة ، فنقلت ما طريقه الاجتهاد إلى ما طريقه الخبر ، وصرح القفال الشاشي بأن الإسلام ليس بشرط ، وإنما رددنا خبر النصارى بقتل عيسى ; لأن أصله ليس بمتواتر ; لأنهم بلغوه عن خبر : ولو ما . ومارقين ، ثم تواتر الخبر من بعدهم ، وكذلك قال الأستاذ أبو منصور . قال : ولا يشترط أن تكون نقلته مؤمنين أو عدولا ، وفرق بينه وبين الإجماع حيث اشترط الإيمان والعدالة فيه أن الإجماع حكم شرعي ، فاعتبر في أهله كونهم من أهل الشريعة ، وقال ابن برهان : لا يشترط إسلامهم خلافا لبعضهم ، وجرى عليه المتأخرون من الأصوليين ، وقطع به ابن الصباغ في باب السلم من الشامل " . فإن الشافعي قال في المختصر " : ولو وقت بفصح النصارى لم يجز ; لأنه قد يكون عاما في شهر وعاما في غيره ، على حساب ينسئون فيه أياما ، فلو اخترناه كنا قد عملنا في ذلك بشهادة النصارى ، وهذا غير حلال للمسلمين .

                                                      قال ابن الصباغ : هذا ما لم يبلغوا حد التواتر ، فإن بلغوه بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإنه يكفي لحصول العلم ، ومنهم من حكى فيه قولا ثالثا ، وهو التفصيل بين أن يطول الزمان فيعتبر الإسلام لجواز التواطؤ ، وإلا فلا يعتبر . حكاه الشيخ في التبصرة " ، ومنهم من فصل بين ما طريقه الديانات فلا مدخل لهم فيه ، وما طريقه الأقاليم وشبهها فهل لهم مدخل بالتواتر فيه ؟ هو محل الخلاف . وقد سبق [ ص: 101 ] عن الماوردي أن العدالة شرط في التواتر دون الاستفاضة . وجزم الروياني بأن الحرية لا تشترط ، وذكر وجهين في انفراد الصبيان به مع شواهد الحال بانتفاء المواطأة ، فتحصلنا على وجوه ، ولا يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد ، ولا يحويهم بلد ، خلافا لقوم ; لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم ، ولا يشترط فيهم أن يكونوا مختلفي الأديان ، والأنساب والأوطان خلافا لليهود ، فإنهم شرطوا أن لا يكون نسبهم واحدا ، وأن لا يكون سكنهم واحدا ، والدليل على فساد ذلك أن قبيلة من القبائل المتفقة أديانهم وأنسابهم لو أخبروا بواقعة في ناحيتهم حصل العلم بخبرهم ضرورة ، ولا يشترط أن يكون فيهم معصوم ، خلافا للشيعة ولابن الراوندي . واعلم أن هذه الشروط لا بد منها ، سواء أخبر المخبرون عن مشاهدة ، أو لا عن مشاهدة ، بل عن سماع من آخرين ، فأما إذا حصل الوسائط فيعتبر شرط آخر ، وهو وجود الشروط في كل الطبقات ، وهو معنى قولهم : لا بد من استواء الطرفين والواسطة ، فيروي العدد المذكور بالصفة السابقة عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه ، أي يجب أن يكون حال من نقل عن الأولين كحال الأولين فيما علموه ضرورة ، وكذلك النقلة في المرتبة الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة إلى أن ينتهي إلينا ، ولهذا لم يصح ما نقله النصارى عن صلب عيسى عليه السلام ; لأنهم نقلوه عن عدد لا تقوم بهم الحجة ابتداء .

                                                      وكذا ما نقلته الروافض من النص على إمامة علي ، وبهذا تبين أن التواتر ينقلب آحادا ، وربما اندرس دهرا . فالمتواتر من أخبار النبي عليه السلام ما اطردت الشرائط فيه عصرا بعد عصر ، حتى انتهى إلينا ، وهذا لا خفاء فيه . قال إمام الحرمين : ولكنه ليس [ ص: 102 ] من شرطه التواتر . قال : بل حاصله أن التواتر قد ينقلب آحادا ، وليس من شرائط وقوع التواتر فلا يصح تعبيرهم باستواء الطرفين والواسطة ، وخالفه ابن القشيري ، وقال : ما هو من شروطه ، لا من شرط حصول العلم ، والعلم قد يحصل من غير تواتر ، وقد ينبني على التواتر .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية