الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وقال إلكيا الطبري : يحتمل أن يقال : يتعين عليه أجازني ، ويحتمل أن يجوز أخبرني ، وحدثني ، وهي أنواع : أحدها : أن يجيز بمعين لمعين ، بأن يقول : أجزت لك الكتاب الفلاني ، وهو أعلاها . وثانيها : لمعين في غير معين ، كقوله : أجزت لك ، أو لكم جميع مسموعاتي . والخلاف في هذا أقوى من الأول ، والجمهور على تجويزه ، وقال إمام الحرمين فيما إذا قال : أجزت لك أن تروي عني ما صح عندي من مسموعاتي : فهذه إجازة مرتبة على عماية ، ويبعد أن يحصل العلم لهذا الفرع بصحة سماع الشيخ إلا بالتعويل على خطوط مشتملة على سماع الشيخ . قال : وإن رأى في ذلك مقنعا ، فإن تحقق ظهور سماع موثوق به فإذ ذاك ، وهيهات . وثالثها : أن يجيز معين لمعين بوصف العموم ، مثل أجزت للمسلمين ، أو لمن أدرك حياتي ، فمنعه جماعة ، وجوزه الخطيب وغيره . وجوز القاضي أبو الطيب الإجازة لجميع المسلمين لمن كان موجودا فيهم عند الإجازة .

                                                      ورابعها : الإجازة للمجهول أو بالمجهول ، مثل أجزت [ ص: 334 ] لمحمد بن خالد الدمشقي ، وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب ، ثم لا يعين المجاز له ، أو يقول : أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن ، وهو يروي جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك ، ولا قرينة تصرف لبعضها ، فهي إجازة فاسدة ، ولا فائدة لها . هكذا قاله ابن الصلاح ، وتبعه النووي في " الروضة " وغيرها ، ويحتمل أن يقال بالجواز ، ويستبيح روايته جميعها ; لأن اللفظ ظاهر في العموم ، ولا مانع فيه . خامسها : الإجازة المعلقة بشرط ، مثل : أجزت لمن شاء فلان أو نحوه ، وهو كالنوع الرابع ، وفيه جهالة ، وتعليق بشرط ، وقد أفتى أبو الطيب بأنه لا يصح ، وعلله بأنه إجازة لمجهول ، فصار كقوله : أجزت لبعض الناس ، وجوزه أبو يعلى بن الفراء ، وأبو الفضل بن عمروس المالكي . وسادسها : الإجازة بما لم يسمعه المجيز ، ولم يتحمله فيما مضى لرواية المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك . قال ابن الصلاح : ينبغي أن يبنى ذلك على أن الإجازة في حكم الإخبار بالمجاز جملة ، أو هي إذن ، فلا يصح إن جعلت في حكم الإخبار ، إذ كيف يجيز ما لا خبر عنده منه ؟ وإن جعلت إذنا بني على الخلاف في تصحيح الوكالة فيما لم يملكه الموكل ، والصحيح بطلان هذه الإجازة . سابعها : إجازة المجاز ، مثل : أجزت لك مجازاتي أو رواية ما أجيز لي روايته ، وقد منعه بعض [ ص: 335 ] المتأخرين . والصحيح جوازه ، وقد كان الفقيه نصر المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة .

                                                      ثامنها : الإذن في الإجازة وهذا مثل أن يقول : أذنت لك أن تجيز عني من شئت ، وهذا نوع لم يذكروه ، ولكنه وقع في عصرنا ، والظاهر أنه يصح ، كما لو قال : وكل عني . تاسعها : الإجازة لمن ليس أهلا لها حين الإجازة ، وهو يشمل صورا : منها الصبي ، وقد قال الخطيب : سألت القاضي أبا الطيب : هل يعتبر في صحة الإجازة للطفل الصغير سنه أو تمييزه ، كما يعتبر ذلك في صحة سماعه ؟ فقال : لا يعتبر ذلك . فقلت له : إن بعض أصحابنا قال : لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه . فقال : قد يصح أن يجيز للغائب عنه ، ولا يصح السماع له ، واحتج الخطيب بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه ، والإباحة تصح للمكلف وغيره . ومنها : المجنون ، وهي صحيحة له ، ذكره الخطيب . ومنها : الكافر ، وقد صححوا تحمله إذا أداه بعد الإسلام ، وقياس إجازته كذلك ، وقد وقعت هذه المسألة في زمن [ ص: 336 ] الحافظ أبي الحجاج المزي وكان طبيب يسمى عبد السيد بن الزيات ، وسمع الحديث في حال يهوديته على أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري ، وكتب اسمه في طبقة السماع مع السامعين ، وأجاز ابن عبد المؤمن لمن سمع ، وهو من جملتهم ، وكان السماع والإجازة بحضور المزي ، وبعض السماع بقراءته ، ثم هدى الله ابن عبد السيد المذكور للإسلام ، وحدث وتحمل الطالبون عنه ، ومنها : الإجازة للفاسق والمبتدع ، ولا شك في جوازها ، وأولى من الكافر . ومنها : الإجازة للحمل ، ولم أر فيه نقلا غير أن الخطيب قال : لم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودا في الحال ، ولم يتعرضوا لكونه إذا وقع : هل تصح ؟ ولا شك أنه أولى بالصحة من المعدوم ، ويقوى إذا أجيز له تبعا لأبويه ، ويحمل بناؤه على أن الحمل هل يعلم أم لا ؟ فإن قلنا : لا يعلم كانت كالإجازة للمجهول ، فيجري فيه الخلاف ، وإن قلنا : يعلم وهو الأصح ، صحت .

                                                      ومنها : الإجازة للمعدوم أيضا ، كقوله : أجزت لمن يولد لفلان [ ص: 337 ] جوزه ابن الفراء ، وابن عمروس ، والخطيب . قال ابن الصباغ : ومأخذهم اعتقاد أن الإجازة إذن في الرواية لا محادثة . والصحيح الذي اتفق عليه رأي القاضي أبي الطيب أنها لا تصح ، أما إجازته عطفا على الحي كقوله : أجزت لك ، ولولدك ، فهي إذن إلى الجواز أولى ، ولهذا أجازه أصحابنا في الوقف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية