الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6153 6518 - حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق".

                                                                                                                                                                                                                              رواه أبو سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [انظر: 2411 - مسلم: 2373 - فتح: 11 \ 367].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: استب رجلان، رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، قال: فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي، الحديث إلى أن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 615 ] قال: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون في أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان موسى فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله -عز وجل-".

                                                                                                                                                                                                                              وعنه أيضا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق". رواه أبو سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              (تعليق أبي سعيد أسنده في مناقب موسى كما سلف، وقد سلف حديث أبي هريرة هناك من طريق عنه، واللاطم: هو الصديق - رضي الله عنه -، واليهودي اسمه فنحاص، قاله ابن بشكوال)، وما ذكره عن مجاهد، وابن عباس مذكوران في تفسيريهما.

                                                                                                                                                                                                                              والذي عليه المفسرون أن الصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل، قال أهل اللغة: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، ينفخ فيها الروح نفخا، وقرأ الحسن بفتح الواو، والصور بكسر الصاد لغة في الصور: جمع صورة، وأنكره النحاس، وقال: لا يعرف هذا أهل التفسير. قال: والحديث على أنه الصور الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام -. وما ذكره في

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 616 ] تفسير الراجفة، والرادفة هو الذي عليه المفسرون، قالوا: وبينهما أربعون سنة، وقيل: الراجفة: الأرض، الرادفة: الساعة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "لا تخيروني على موسى" قيل: إنه كان قبل أن يوحى إليه السيادة، وقوله في الرواية الأولى: "فلا أدري أكان موسى ممن صعق" قال الداودي: هي وهم; لأنه إنما يصعق الأحياء، وموسى يومئذ ميت فكيف؟ وضبط صعق بضم الصاد.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وقوله: "أو كان ممن استثنى الله" أي جعله لي ثانيا، أو كان قبلي، قال: وإن كان المحفوظ أنه جوزي بالصعقة فمعناه: أفاق قبله بفضيلة (أعطيها)، أو مجازاة بالصعقة، وقيل معنى: "ممن استثنى الله": (أي: استثنى) في قوله: فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [الزمر: 68]، ولابن ماجه بإسناد جيد: فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قال الله -عز وجل-: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى" الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إن المستثنى الملائكة، وقيل: الشهداء، وقيل: الأنبياء، واختار الحليمي: الشهداء، قال: وهو يروى عن ابن عباس، واستدل بقوله تعالى: أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران: 169]، وضعف غيره من الأقوال.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 617 ] ونقل القرطبي أبو العباس فقال: الصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. قلت: أخرجه البيهقي في "البعث والنشور" بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: أنه سأل جبريل عن هذه الآية "من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله" أخرجه عن الحاكم ثنا علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا الحسين بن محمد القباني، ثنا أبو بكر وعثمان، ابنا أبي شيبة، أنا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه به، وأخرجه ابن معبد في كتاب "الطاعة" أيضا بلفظ: يا رسول الله، فمن استثنى الله حين قال: إلا من شاء الله قال: "أولئك الشهداء".

                                                                                                                                                                                                                              وروى النحاس في "معانيه" من حديث حجر المدري عن سعيد بن جبير: هم الشهداء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن بن أبي الحسن: استثنى -عز وجل- طوائف من السماء يموتون بين النفختين؟ وقال يحيى بن سلام في "تفسيره": بلغني أن آخر من يبقى منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يموت جبريل وميكائيل وإسرافيل، ثم يقول الله لملك الموت: مت، (فيموت)، وقد جاء هذا مرفوعا أيضا في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، وقال الحليمي: من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 618 ] زعم أن الاستثناء لأجل حملة العرش أو جبريل أو ميكائيل أو ملك الموت، أو زعم أنه لأجل الولدان، والحور في الجنة، أو زعم أنه لأجل موسى; فإنه - عليه السلام - قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأرفع رأسي فإذا موسى". الحديث، فإنه لا يصح شيء فيه.

                                                                                                                                                                                                                              أما الأول: فلأن حملة العرش ليسوا من سكان السماء ولا الأرض; لأن العرش فوق السماوات كلها، فكيف تكون حملته في السماوات، وأما جبريل وملك الموت وميكائيل فمن الحافين المسبحين حول العرش، وإذا كان العرش حول السماوات لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات، وكذلك القول الثاني; لأن الولدان والحور (في الجنة)، والجنان وإن كانت بعضها فوق بعض; فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله جل وعلا للفناء، وصرفه إلى موسى لا وجه له; لأنه مات بالحقيقة فلا يموت عند نفخ الصور ثانية، ولهذا لم يعتد ما ذكر من اختلاف المتأولين في الاستثناء بقول من قال: إلا من شاء الله، أي: الذي سبق موتهم قبل نفخ الصور; لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة، فأما من لا يمكن دخوله فيها فلا معنى للاستثناء به، وهذا في موسى موجود، فلا وجه للاستثناء، وقد قال - عليه السلام - في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى من قوله: "فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقته". فظاهر هذا أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عند نفخ الصور، صرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 619 ] قيل: المعنى أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أول من يرفع رأسه، فإذا موسى، فلا أدري أبعثه قبلي كان - وهذا له تفضيل من هذا الوجه كما فضل في الدنيا بالتكليم -أو جوزي بصعقة الطور، أي: قدم بعثه على بعث الأنبياء بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل، إلى أن أفاق، ليكون هذا جزاء له بها، وما عدا هذا فلا يثبت.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو العباس القرطبي: ظاهر الحديث يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية -نفخة البعث- ونص القرآن العظيم يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هكذا قال بعض العلماء: يحتمل أن موسى - عليه السلام - ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل مما تقدم من ذكر موته - عليه السلام -.

                                                                                                                                                                                                                              وقال البيهقي: وجه هذا الحديث عندي -والله أعلم- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رؤيته جماعة من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، وإنما يصح ذلك على أن الله تعالى رد إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق، ثم لا يكون موتا في جميع معاقبه إلا في ذهاب الاستشعار، فإن موسى فيمن استثنى الله بقوله: إلا من شاء الله فإنه تعالى لا يذهب استشعاره في تلك الحالة، ويحاسب بصعقة يوم الطور.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض.

                                                                                                                                                                                                                              قال القرطبي: والذي يزيح هذا الإشكال أن الموت ليس بعدم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 620 ] محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال،
                                                                                                                                                                                                                              يدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه صفة الحياة في الدنيا، فإذا كان هذا في الشهداء كان ذلك في الأنبياء أحق وأولى، بل صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء". وأنه - عليه السلام - اجتمع بهم ليلة الإسراء في القدس والسماء، خصوصا بموسى، وأخبرنا - عليه السلام - بما يقتضي أن الله تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من سلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم (موجودين) أحياء، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته من أوليائه، وإذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ الصور نفخة الصعق صعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشي، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال - عليه السلام -: "فأكون أول من يفيق".

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وإذا كان غيرهم ممن عدده الشارع أحياء، فالأنبياء أولى.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد سلف قوله: "فأكون أول من يفيق" وقد سلف أن موتهم غشي، فالآية حاصلة من ذلك، وقوله: "فلا أدري" إلى آخره: فضيلة عظيمة في

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 621 ] حق موسى
                                                                                                                                                                                                                              - عليه السلام -، نعم لا يلزم من فضيلته أحد الأمرين المشكوك فيهما أفضلية موسى على نبينا مطلقا; لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرا كليا، وهذا اختيار الحليمي، حيث قال: فإن حمل عليها الحديث (فذاك) قال: وإنما الملائكة الذين ذكرناهم فإنا لم ننف عنهم الموت، ولا أحلناه، وإنما (استبنا) أن يكونوا هم المرادين بقوله: إلا من شاء الله من الوجه الذي ذكرناه، ثم قد وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش، وملك الموت، وميكائيل، ثم يميت آخر من يميت جبريل، ويحييه مكانه، ويحيي هؤلاء الملائكة الذين ذكرناهم، وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر، والأظهر أنها دار الخلد، والذي يدخلها لا يموت فيها أبدا (مع كونه قابلا للموت، فالذي خلق فيها أولى أن لا يموت فيها أبدا)، وأيضا فإن الموت لقهر المكلفين، ونقلهم من دار إلى دار; وأهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفا; فإن أعفوا من الموت كما أعفوا من التكليف لم يكن بعيدا، وأما قوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه [القصص: 88] أي: ما من شيء إلا وهو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذلك إلا وجهه. أي: إلا هو سبحانه; فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى، وما عداه محدث، والمحدث إنما يبقى بقدر ما يبقيه محدثه; فإذا حبس البقاء عنه فني، ولم يبلغنا في خبر صحيح ولا معلول أنه مهلك العرش، فلتكن الجنة مثله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 622 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في "مسند أبي داود الطيالسي" إلى ما عزاه إليه القرطبي; وإن لم أره فيه من حديث لقيط بن عامر بن صبرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يلبثون ما لبثتم، ثم تبعث الصيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك تطوف البلاد، وقد خلت عليه البلاد".

                                                                                                                                                                                                                              قال العلماء: وهذا تفهيم وتقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت، وأن الأرض تبقى خالية، وليس يبقى إلا هو.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في فناء الجنة والنار عند فناء جميع الخلائق قولان حكاهما القرطبي وغيره أحدهما: لا، ويبقيان ببقاء الله، والثاني: يفنيهما، ولا يبقى شيء سواه، وهو معنى قوله: هو الأول والآخر [الحديد: 3]، وإذا أفناهما فالمخلوق فيهما أولى بالفناء وغيره حكى قولا ثالثا بفناء النار فقط. ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في عدد النفخات، والذي في الصحيح نفختان، قال تعالى: ونفخ في الصور الآية [الزمر: 68] إلى قوله: ثم نفخ فيه أخرى

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 623 ] [الزمر: 68] وروينا في كتاب "الطاعة" لعلي بن معبد، عن المسيب بن شريك، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن عبد الله بن يزيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "إن الله -عز وجل- لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور، وأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش" قلت: يا رسول الله، وما الصور؟ قال: "قرن عظيم، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات: أول نفخة: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: القيام لرب العالمين، يقول الله لإسرافيل: انفخ نفخة الفزع; فيفزع أهل السماء، وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويمدها، ويطولها"، وقد تمها بقول الله: وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق [ص: 15]، ويكون ذلك يوم الجمعة للنصف من رمضان فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، ثم تكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله جل ثناؤه: يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة [النازعات: 6، 7]، وتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيمتد الناس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتتطاير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهي التي يقول الله يوم التناد: يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم [غافر: 133]; فبينا هم على ذلك أن تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، ورأوا أمرا عظيما، فأخذهم من الكرب ما الله به عليم، ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم انشقت وانخسفت شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت السماء عنهم، قال - عليه السلام -: "والموتى يومئذ

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 624 ] لا يعلمون بشيء من ذلك، فيمكث بذلك ما شاء الله إلا أنه يطول، ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق". ثم ساق الحديث. وفيه: "ثم يهتف بصوته ثلاث مرات: لمن الملك اليوم [غافر: 16]، ثم يقول: لله الواحد القهار " [غافر: 16].

                                                                                                                                                                                                                              وعند الزمخشري: فينادي مناد: لمن الملك اليوم، فيجيبه أهل الجنة: لله الواحد القهار وفيه: "ثم يقول لإسرافيل بعد أن أماته ثم أحياه: انفخ نفخة البعث، فينفخ". الحديث، وعلته إسماعيل بن رافع، ضعفوه، قال العلاء: اجتمعوا على ترك حديثه، وأعجب من ابن العربي حيث قال في "سراجه": يوم الزلزلة: هو الاسم الثاني عشر، يكون عن النفخة الأولى بهذا الحديث الواحد، المنفرد، غريب منه، فأين الصيحة، وكذا قول أبي عبد الله القرطبي: هو حديث صحيح، وادعى عبد الحق في "عاقبته" انقطاعه، فقال: لا يصح مع انقطاعه. وعذره أنه لم يره إلا في "تفسير الطبري"، وقد أخرجه من حديث إسماعيل هذا عن جدته عن محمد بن كعب، وقد أخرجناه موصولا، والمسيب بن شريك، وعبد الله بن يزيد يبحث عنهما، نعم أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي في "تفسيره"، عن محمد بن عجلان قال: سمعت محمد بن كعب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -; فذكره. قال القرطبي: وقد قيل إن نفخة الفزع هي نفخة الصعق; لأن الأمرين لازمان لها أي: إنهم فزعوا فزعا ماتوا منه، والسنة الثابتة

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 625 ] على ما سلف من حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما يدل على أنها ثلاث نفخات، وهو الصحيح -إن شاء الله- قال تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [الزمر: 68]، فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع; فدل على أنهما واحدة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال أبيت. وروى ابن المبارك من حديث الحسن: أنه - عليه السلام - قال: "بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيي بها كل ميت".

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحليمي: اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة، وذلك بعد أن يجمع الله جل وعلا ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع، وحيوانات الماء، وبطن الأرض وغيرها، فإذا جمعها، وأكمل كل بدن منها، ولم يبق إلا الأرواح، جمع الأرواح في الصور، وأمر إسرافيل - عليه السلام - فأرسلها بنفخة من ثقب الصور، فرجع كل ذي روح إلى جسده.

                                                                                                                                                                                                                              وجاء في بعض الأخبار ما يبين أن من أكله طائر أو سبع حشر من جوفه، وهو ما رواه الزهري عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعا: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمزة يوم أحد، وقد مثل به، فقال: "لولا أن تجد صفية في نفسها;

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 626 ] لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع والطير".


                                                                                                                                                                                                                              وفي "تفسير أبي نصر" عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري: المراد بنفخة الفزع: النفخة الثانية أي: يجيئون فزعين، يقولون: من بعثنا من مرقدنا [يس: 52]، واختاره الماوردي.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها وهم أموات، قيل له: إن نفخة الإحياء تمتد وتطول، فيكون أولها للإحياء، وما بعدها للإزعاج، فلا يسمعون ما يكون للإحياء ويسمعون ما للإزعاج ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة، والناس يحيون منها أولا فأولا، فكلما حي واحد سمع من يحيى بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا الكلام على القرن، وقال القرطبي: إنه قرن من نور يجعل فيه الأرواح، يقال: إن فيه من الثقب عدد أرواح الخلائق.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر المفسرون أن الصور ينقر فيه مع النفخ الأول لموت الخلق، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النفخ والنقر; فتكون الصيحة أهدأ وأعظم، فإذا تهيأت الأجسام وكملت نفخ في الصور نفخة البعث من غير نقر; لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقيرها من أجسادها، والنفخة الأولى للتنفير، وهي نظير صوت الرعد، الذي قد يقوى; فيمات منه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 627 ] وروى الترمذي محسنا عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: سأل أعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصور، قال: "قرن ينفخ فيه"، وفي حديث أبي سعيد، وقال الحسن مرفوعا: "كيف أنعم، وصاحب الصور -وهو القرن- قد التقم القرن واستمع الإذن"، وفي "فوائد أبي الحسن صخر" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "ما أطرق صاحب الصور مذ، وكل به مستعدا، بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان".

                                                                                                                                                                                                                              ولابن المبارك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - حديثا قال فيه: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، والصور قرن".

                                                                                                                                                                                                                              قال: وروي أن له رأسين: رأس بالمشرق، ورأس بالمغرب.

                                                                                                                                                                                                                              قال القرطبي: وليس الصور جمع صورة، كما زعم بعضهم أنه ينفخ في صور الموتى بدليل الأحاديث المذكورة، والتنزيل أيضا يدل على ذلك، قال تعالى: ثم نفخ فيه أخرى ولم يقل فيها، فعلم أنه ليس بجمع صورة، قال الكلبي: لا أدري ما الصور؟ ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، أي: ينفخ في صور الموتى الأرواح، وقرأ الحسن: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة [الأنعام: 73] إلى هذا ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو مردود بما ذكرنا، وأيضا لا ينفخ في الصور (للبعث) مرتين، بل ينفخ مرة واحدة، فإسرافيل ينفخ في الصور الذي هو القرن، والله هو الذي يحيي الصور، فينفخ فيها الروح كما قال تعالى: فنفخنا فيها من روحنا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 628 ] [التحريم: 12] ونفخت فيه من روحي [الحجر: 29]. وقد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرنا.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو الهيثم: من قال ذلك فهو كمن ينكر العرش والميزان، وطلب لها تأويلات.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قام الإجماع -كما نقله القرطبي- على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل، وروينا عن أبي نعيم الحافظ، ثنا سليمان، ثنا أحمد بن القاسم، ثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث قال: كنا عند عائشة - رضي الله عنها -، وعندها كعب الحبر، فقالت: يا كعب، أخبرنا عن إسرافيل. قال: له أربعة أجنحة... الحديث، وفيه: "وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه، وقد نصب الأخرى ملتقم الصور، منحنيا ظهره، شاخصا ببصره، ينظر إلى إسرافيل، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور". فقالت عائشة - رضي الله عنها -: هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول. ثم قال: غريب من حديث كعب، لم يروه عنه إلا عبد الله بن الحارث، عن كعب، ورواه خالد الحذاء، عن الوليد بن بشر، عن عبد الله بن رباح، عن كعب نحوه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الأوسط" للطبراني، ثنا الوليد بن بيان، ثنا محمد بن عمار الداري، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث، عن عائشة ترفعه: "ملك الصور جاث على

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 629 ] ركبته، وقد نصب الأخرى، والتقم الصور محن ظهره، شاخص ببصره إلى إسرافيل، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور".
                                                                                                                                                                                                                              وقال: لم يروه عن حماد إلا مؤمل.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن ماجه من حديث حجاج عن عطية، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "إن صاحبي الصور بأيديهما -أو في أيديهما- قرنان ملاحظان النظر، متى يؤمران".

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود من حديث العوفي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب القرن، فقال: "عن يمينه جبريل، وعن يساره ميكائيل".

                                                                                                                                                                                                                              قال بعض العلماء: فلعل لأحدهما قرنا آخر ينفخ فيه. وذكر أبو السري هناد بن السري، ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: فذكر حديثا فيه: "وملكان موكلان بالصور" وحدثنا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن ضمرة، عن كعب قال: فذكر حديثا فيه: "وملكان موكلان بالصور، ينظران متى يؤمران فينفخان".




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية