الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
عدنا إلى ذكر ارتباط الآي بعضها ببعض . فنقول : ذكر الآية بعد الأخرى ; إما أن يظهر الارتباط بينهما لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى فواضح ، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على جهة التأكيد والتفسير أو الاعتراض والتشديد ، وهذا القسم لا كلام فيه .

وإما ألا يظهر الارتباط ، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى ، وأنها خلاف النوع المبدوء به ، فإما أن تكون معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف المشترك في الحكم أو لا :

القسم الأول :

أن تكون معطوفة ، ولا بد أن تكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه كقوله تعالى : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) ( الحديد : 4 ) وقوله : ( والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) ( البقرة : 245 ) ، وفائدة العطف جعلهما كالنظيرين والشريكين .

وقد تكون العلاقة بينهما المضادة ، وهذا كمناسبة ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب والرغبة بعد الرهبة . وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا ; ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق ، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي ، وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك .

وقد تأتي الجملة معطوفة على ما قبلها ، وتشكل وجه الارتباط فتحتاج إلى شرح ، ونذكر [ ص: 137 ] من ذلك صورا يلتحق بها ما هو في معناها : فمنها قوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ( البقرة : 189 ) الآية ، فقد يقال : أي رابط بين أحكام الأهلة وبين أحكام إتيان البيوت ؟ والجواب من وجوه :

( أحدها ) كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الحكمة في تمام الأهلة ونقصانها : معلوم أن كل ما يفعله الله فيه حكمة ظاهرة ومصلحة لعباده ، فدعوا السؤال عنه ، وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا .

( الثاني ) أنه من باب الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج ، وكان هذا من أفعالهم في الحج ، ففي الحديث أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب ، فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته ، منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلما يصعد به ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم من دخول الباب لكن البر بر من اتقى ما حرم الله ، وكان من حقهم السؤال عن هذا وتركهم السؤال عن الأهلة ، ونظيره في الزيادة على الجواب قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

( الثالث ) أنه من قبيل التمثيل لما هم عليه من تعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم [ ص: 138 ] كمثل من يترك بابا ويدخل من ظهر البيت ، فقيل لهم : ليس البر ما أنتم عليه من تعكيس الأسئلة ، ولكن البر من اتقى ذلك ، ثم قال الله سبحانه وتعالى : ( وأتوا البيوت من أبوابها ) ( البقرة : 189 ) أي باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد أن يصمم القلب على أن جميع أفعال الله حكمة منه وأنه : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ( الأنبياء : 23 ) فإن في السؤال اتهاما .

ومنها قوله - سبحانه وتعالى - : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) ( الإسراء : 1 ) إلى أن قال : ( وآتينا موسى الكتاب ) ( الإسراء : 2 ) ، فإنه قد يقال : أي رابط بين الإسراء و ( وآتينا موسى الكتاب ) ؟ ووجه اتصالها بما قبلها أن التقدير أطلعناه على الغيب عيانا وأخبرناه بوقائع من سلف بيانا لتقوم أخباره بذلك على معجزته برهانا ، أي سبحان الذي أطلعك على بعض آياته لتقصها ذكرى ، وأخبرك بما جرى لموسى وقومه في الكرتين لتكون قصتهما آية أخرى ، أو أنه أسري بمحمد إلى ربه كما أسري بموسى من مصر حين خرج منها خائفا يترقب ، ثم ذكر بعده ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ) ( الإسراء : 3 ) ليتذكر بنو إسرائيل نعمة الله عليهم قديما حيث نجاهم من الغرق ، إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا ، وأخبرهم أن نوحا كان عبدا شكورا ، وهم ذريته ، والولد سر أبيه ، فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم ؛ لأنه يجب أن يسيروا سيرته فيشكروا .

وتأمل كيف أثنى عليه وكيف تليق صفته بالفاصلة ، ويتم النظم بها مع خروجها مخرج المرور من الكلام الأول إلى ذكره ومدحه فشكره ، وأن يعتقدوا تحريم تعظيم [ ص: 139 ] تخليصه إياهم من الطوفان بما حملهم عليه ، ونجاهم منه حين أهلك من عداهم ، وقد عرفهم أنه إنما يؤاخذهم بذنوبهم وفسادهم فيما سلط عليهم من قتلهم ، ثم عاد عليهم بالإحسان والإفضال كي يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم وعلى نوح الذي ولدهم ، وهم ذريته ، فلما جاروا إلى جهالتهم وتمردوا عاد عليهم التعذيب .

ثم ذكر الله تعالى في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة بكلمات قليلة العدد كثيرة الفوائد ، لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير والكلام المطول ، مع ما اشتمل عليه من التدريج العجيب والموعظة العظيمة بقوله : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) ( الإسراء : 7 ) وإن لم ينقطع بذلك نظام الكلام إلى أن خرج إلى قوله : ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) ( الإسراء : 8 ) يعني إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو ، ثم خرج خروجا آخر إلى حكمة القرآن ; لأنه الآية الكبرى . وعلى هذا فقس الانتقال من مقام إلى مقام ، حتى ينقطع الكلام .

وبهذا يظهر لك اشتمال القرآن العظيم على النوع المسمى بالتخلص ، وقد أنكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي وقال : " ليس في القرآن الكريم منه شيء لما فيه من التكلف " ، وليس كما قال .

ومن أحسن أمثلته قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) ( النور : 35 ) الآية ، فإن فيها خمس تخلصات : وذلك أنه جاء بصفة النور وتمثيله ، ثم تخلص منه إلى ذكر الزجاجة وصفاتها ، ثم رجع إلى ذكر النور والزيت يستمد منه ، ثم تخلص منه إلى ذكر الشجرة ، ثم تخلص من ذكرها إلى صفة الزيت ، ثم تخلص من صفة الزيت إلى صفة النور وتضاعفه ، ثم تخلص منه إلى نعم الله بالهدى على من يشاء .

[ ص: 140 ] ومنه قوله تعالى : ( سأل سائل بعذاب واقع ) ( المعارج : 1 ) الآية ، فإنه سبحانه ذكر أولا عذاب الكفار ، وأن لا دافع له من الله ، ثم تخلص إلى قوله : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) ( المعارج : 4 ) بوصف الله ذي المعارج ( المعارج : 3 ) .

ومنه قوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ) ( الشعراء : 69 - 70 ) إلى قوله : ( فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ) ( الشعراء : 102 ) فهذا تخلص من قصة إبراهيم إلى قومه هكذا ، وتمني الكفار في الدار الآخرة الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسل ، وهذا تخلص عجيب .

وقوله : ( قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين ) ( الشعراء : 72 - 78 ) . وذلك أنه لما أراد الانتقال من أحوال أصنامهم إلى ذكر صفات الله قال : إن أولئك لي أعداء إلا الله ، فانتقل بطريق الاستثناء المنفصل .

وقوله تعالى : ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) ( النمل : 23 - 26 ) .

وقوله تعالى في سورة الصافات : ( أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ) ( الآية : 62 ) ; وهذا من بديع التخلص ; فإنه سبحانه خلص من وصف المخلصين وما أعد لهم ، إلى وصف الظالمين وما أعد لهم .

ومنه أنه تعالى في سورة الأعراف ذكر الأمم الخالية والأنبياء الماضين من آدم - عليه السلام - [ ص: 141 ] إلى أن انتهى إلى قصة موسى - عليه السلام - فقال في آخرها : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة ) ( الآية : 155 ) إلى ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) ( الآية : 157 ) وهو من بديع التخلص .

واعلم أنه حيث قصد التخلص فلا بد من التوطئة له ، ومن بديعه قوله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص ) ( يوسف : 3 ) يشير إلى قصة يوسف - عليه السلام - فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة ، يشير إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز . وكقوله سبحانه موطئا للتخلص إلى ذكر مبتدأ خلق المسيح - عليه السلام - : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا ) الآية ( آل عمران : 33 ) .

ومنها قوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ( البقرة : 115 ) ، فإنه قد يقال : ما وجه اتصاله بما قبله ، وهو قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) الآية ( 114 ) ؟ وقال الشيخ أبو محمد الجويني في " تفسيره " : " سمعت أبا الحسين الدهان يقول : وجه اتصالها هو أن ذكر تخريب بيت المقدس قد سبق ، أي فلا يجرمنكم ذلك واستقبلوها ، فإن لله المشرق والمغرب " .

[ ص: 142 ] ومنها قوله : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ) الآية ( الغاشية : 17 - 18 ) ، فإنه يقال : ما وجه الجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في هذه الآية ؟ والجواب : إنما جمع بينهما على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر ; فإن جل انتفاعهم في معايشهم من الإبل ، فتكون عنايتهم مصروفة إليها ، ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب ، وذلك بنزول المطر ، وهو سبب تقليبهم وجوههم في السماء ، ولا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ، ولا شيء في ذلك كالجبال ، ثم لا غنى لهم - لتعذر طول مكثهم في منزل - عن التنقل من أرض إلى سواها ، فإذا نظر البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور .

ومنها قوله تعالى : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء ) ( الرعد : 33 ) فيقال : أي ارتباط بينهما ؟ وجوابه : أن المبتدأ وهو " من " خبره محذوف ؛ أي أفمن هو قائم على كل نفس تترك عبادته ؟ أو معادل الهمزة تقديره : أفمن هو قائم على كل نفس كمن ليس بقائم ؟ ووجه العطف على التقديرين واضح . أما الأول فالمعنى أتترك عبادة من هو قائم على كل نفس ، ولم يكف الترك حتى جعلوا له شركاء ! وأما على الثاني فالمعنى : إذا انتفت المساواة بينهما فكيف تجعلون لغير المساوي حكم المساوي ؟ ! .

ومنها قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) ( البقرة : 258 ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية ) ( البقرة : 258 - 259 ) عطف قصة على قصة ، مع أن شرط العطف المشاكلة ، فلا يحسن في نظير الآية : ( ألم تر إلى ربك ) ( الفرقان : 45 ) ( أو كالذي ) ( البقرة : 259 ) ووجه ما بينهما من [ ص: 143 ] المشابهة أن : ( ألم تر ) بمنزلة : هل رأيت كالذي حاج إبراهيم ؟ وإنما كانت بمنزلتها لأن ( ألم تر ) مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ؛ ولذلك يجاب ببلى ، والاستفهام يعطي النفي ، إذ حقيقة المستفهم عنه غير ثابتة عند المستفهم ، ومن ثم جاء حرف الاستفهام مكان حرف النفي ، ونفي النفي إيجاب ، فصار بمثابة " رأيت " ، غير أنه مقصود به الاستفهام ، ولم يمكن أن يؤتى بحرفه لوجوده في اللفظ ; فلذلك أعطى معنى : هل رأيت . فإن قلت : من أين جاءت " إلى " و " رأيت " يتعدى بنفسه ؟ أجيب لتضمنه معنى " تنظر " .

القسم الثاني :

ألا تكون معطوفة ، فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام ، وهي قرائن معنوية مؤذنة بالربط ، والأول مزج لفظي ، وهذا مزج معنوي ، تنزل الثانية من الأولى منزلة جزئها الثاني ، وله أسباب :

( أحدها ) التنظير ; فإن إلحاق النظير بالنظير من دأب العقلاء ، ومن أمثلته قوله تعالى : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) ( الأنفال : 5 ) عقب قوله : ( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) ( الأنفال : 4 ) فإن الله سبحانه أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون ; وذلك أنهم اختلفوا في القتال يوم بدر في الأنفال ، وحاجوا النبي صلى الله عليه وسلم وجادلوه ، فكره كثير منهم ما كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفل ، فأنزل الله هذه الآية وأنفذ أمره بها ، وأمرهم أن يتقوا الله ويطيعوه ولا يعترضوا عليه فيما يفعله من شيء ما بعد أن كانوا مؤمنين . ووصف المؤمنين ثم قال : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) ( الأنفال : 5 ) يريد أن كراهيتهم لما فعلته من الغنائم ككراهتهم للخروج معك .

وقيل معناه أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق كقوله تعالى : ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) ( الذاريات : 23 ) . وقيل : الكاف صفة لفعل مضمر ، وتأويله : افعل في الأنفال كما فعلت [ ص: 144 ] في الخروج إلى بدر ، وإن كره القوم ذلك ، ونظيره قوله تعالى : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) ( البقرة : 151 ) معناه : كما أنعمنا عليكم بإرسال رسول من أنفسكم ، فكذلك أتم نعمتي عليكم ؛ فشبه كراهتهم ما جرى من أمر الأنفال وقسمتها بالكراهة في مخرجه من بيته ، وكل ما لا يتم الكلام إلا به من صفة وصلة فهو من نفس الكلام .

وأما قوله تعالى : ( كما أنزلنا على المقتسمين ) ( الحجر : 90 ) بعد قوله : ( وقل إني أنا النذير المبين ) ( الحجر : 89 ) فإن فيه محذوفا ; كأنه قال : قل أنا النذير المبين ، عقوبة أو عذابا مثل ما أنزلنا على المقتسمين .

وأما قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) ( القيامة : 16 ) ، وقد اكتنفه من جانبيه قوله : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) ( القيامة : 14 - 15 ) وقوله : ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) ( القيامة : 20 - 21 ) فهذا من باب قولك للرجل وأنت تحدثه بحديث فينتقل عنك ويقبل على شيء آخر : أقبل علي واسمع ما أقول ، وافهم عني ، ونحو هذا الكلام ، ثم تصل حديثك فلا يكون بذلك خارجا عن الكلام الأول قاطعا له ، وإنما يكون به مشوقا للكلام ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وكان إذا نزل عليه الوحي وسمع القرآن حرك لسانه بذكر الله ، فقيل له : تدبر ما يوحى إليك ولا تتلقه بلسانك ; فإنما نجمعه لك ونحفظه عليك .

ونظيره قوله في سورة المائدة : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) ( الآية : 3 ) إلى قوله : ( الإسلام دينا ) ( الآية : 3 ) فإن الكلام بعد ذلك متصل بقوله أولا : ( ذلكم فسق ) ( الآية : 3 ) ووسط هذه الجملة بين الكلامين ترغيبا في قبول هذه الأحكام والعمل بها ، والحث على مخالفة الكفار وموت كلمتهم وإكمال الدين ، ويدل على اتصال ( فمن اضطر ) ( الآية : 3 ) بقوله : ( ذلكم فسق ) آية الأنعام : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر ) ( الآية : 145 ) .

[ ص: 145 ] ( الثاني ) : المضادة ، ومن أمثلته قوله تعالى في سورة البقرة : ( إن الذين كفروا سواء عليهم ) ( الآية : 6 ) الآية ، فإن أول السورة كان حديثا عن القرآن الكريم ، وأن من شأنه كيت وكيت ، وأنه لا يهدي القوم الذين من صفاتهم كيت وكيت ، فرجع إلى الحديث عن المؤمنين ، فلما أكمله عقب بما هو حديث عن الكفار ، فبينهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوجه ، وحكمته التشويق والثبوت على الأول ، كما قيل : " وبضدها تتبين الأشياء " ، فإن قيل : هذا جامع بعيد لأن كونه حديثا عن المؤمنين بالعرض لا بالذات ، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن الكتاب لأنه مفتتح القول .

قلنا : لا يشترط في الجامع ذلك ، بل يكفي التعلق على أي وجه كان ، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا ؛ لأن القصد تأكيد أمر القرآن ، والعمل به والحث على الإيمان به ، ولهذا لما فرغ من ذلك قال : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) الآية ( البقرة : 23 ) فرجع إلى الأول .

( الثالث ) : الاستطراد ; كقوله تعالى : ( يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) ( الأعراف : 26 ) قال الزمخشري : " هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد ، وعقب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق الله من اللباس ، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى " .

وجعل القاضي أبو بكر في كتاب " إعجاز القرآن " من الاستطراد قوله تعالى : [ ص: 146 ] ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ) . ( النحل : 48 - 49 ) وقال : " كأن المراد أن يجري بالقول الأول على الإخبار عن أن كل شيء يسجد لله - عز وجل - وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص " انتهى ، وفيه نظر .

ومنه الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطا للسامع كقوله تعالى في سورة ( ص ) بعد ذكر الأنبياء : ( هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ) ( الآية : 49 ) ، فإن هذا القرآن نوع من الذكر لما انتهى ذكر الأنبياء ، وهو نوع من التنزيل ، أراد أن يذكر نوعا آخر ، وهو ذكر الجنة وأهلها فقال : ( هذا ذكر ) فأكد تلك الإخبارات باسم الإشارة ، تقول : أشير عليك بكذا ، ثم تقول بعده : هذا الذي عندي والأمر إليك . وقال : ( وإن للمتقين لحسن مآب ) ( الآية : 49 ) ، كما يقول المصنف : هذا باب ، ثم يشرع في باب آخر . ولذلك لما فرغ من ذكر أهل الجنة قال : ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ) ( الآية : 55 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية