[ ص: 284 ] فصل
nindex.php?page=treesubj&link=19725_19719وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ؟
فيه قولان لأهل العلم ، وهما روايتان عن الإمام
أحمد ، ولم يطلع على الخلاف من حكى الإجماع على صحتها ،
كالنووي وغيره .
والمسألة مشكلة ، ولها غور ، ويحتاج الجزم بأحد القولين إلى دليل يحصل به الجزم ، والذين صححوها احتجوا بأنه لما صح الإسلام - وهو توبة من الكفر - مع البقاء على معصية لم يتب منها ، فهكذا تصح التوبة من ذنب مع بقائه على آخر .
وأجاب الآخرون عن هذا بأن الإسلام له شأن ليس لغيره ، لقوته ونفاذه ، وحصوله - تبعا بإسلام الأبوين أو أحدهما - للطفل ، وكذلك بانقطاع نسب الطفل من أبيه ، أو بموت أحد أبويه في أحد القولين ، وكذلك يكون بكون سابيه ومالكه مسلما في أحد القولين أيضا ، وذلك لقوته ، وتشوف الشرع إليه ، حتى حصل بغير القصد بل بالتبعية .
واحتج الآخرون بأن
nindex.php?page=treesubj&link=19704التوبة هي الرجوع إلى الله من مخالفته إلى طاعته ، وأي رجوع لمن تاب من ذنب واحد ، وأصر على ألف ذنب ؟ .
قالوا : والله سبحانه إنما لم يؤاخذ التائب ، لأنه قد رجع إلى طاعته وعبوديته ، وتاب توبة نصوحا ، والمصر على مثل ما تاب منه - أو أعظم - لم يراجع الطاعة ولم يتب توبة نصوحا .
قالوا : ولأن التائب إذا تاب إلى الله ، فقد زال عنه اسم العاصي كالكافر إذا
[ ص: 285 ] أسلم زال عنه اسم الكافر وأما إذا أصر على غير الذنب الذي تاب منه فاسم المعصية لا يفارقه ، فلا تصح توبته .
وسر المسألة ، أن
التوبة هل تتبعض ، كالمعصية ، فيكون تائبا من وجه دون وجه ، كالإيمان والإسلام ؟
والراجح تبعضها ، فإنها كما تتفاضل في كيفيتها كذلك تفاضل في كميتها ، ولو أتى العبد بفرض وترك فرضا آخر لاستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله ، فهكذا إذا تاب من ذنب وأصر على آخر ، لأن التوبة فرض من الذنبين ، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر ، فلا يكون ما ترك موجبا لبطلان ما فعل ، كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة .
والآخرون يجيبون عن هذا بأن التوبة فعل واحد ، معناه الإقلاع عما يكرهه الله ، والندم عليه ، والرجوع إلى طاعته ، فإذا لم توجد بكمالها لم تكن صحيحة ، إذ هي عبادة واحدة ، فالإتيان ببعضها وترك بعض واجباتها كالإتيان ببعض العبادة الواجبة وترك بعضها ، فإن ارتباط أجزاء العبادة الواحدة بعضها ببعض أشد من ارتباط العبادات المتنوعات بعضها ببعض .
وأصحاب القول الآخر يقولون : كل ذنب له توبة تخصه ، وهي فرض منه ، لا تتعلق بالتوبة من الآخر ، كما لا يتعلق أحد الذنبين بالآخر .
والذي عندي في هذه المسألة أن
التوبة لا تصح من ذنب ، مع الإصرار على آخر من نوعه ، وأما التوبة من ذنب ، مع مباشرة آخر لا تعلق له به ، ولا هو من نوعه فتصح ، كما إذا تاب من الربا ، ولم يتب من شرب الخمر مثلا ، فإن توبته من الربا صحيحة ، وأما إذا تاب من ربا الفضل ، ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه ، أو بالعكس ، أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر ، أو بالعكس فهذا لا تصح توبته ، وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة ، وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها ، أو تاب من شرب عصير العنب المسكر ، وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة ، فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب ، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر ، بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس ، إما لأن وزرها أخف ، وإما لغلبة دواعي الطبع إليها ، وقهر سلطان شهوتها له ، وإما لأن أسبابها حاضرة لديه عتيدة ، لا يحتاج إلى استدعائها ، بخلاف معصية يحتاج إلى استدعاء أسبابها ، وإما لاستحواذ قرنائه وخلطائه عليه ، فلا يدعونه يتوب منها ، وله بينهم حظوة بها وجاه ، فلا تطاوعه نفسه على
[ ص: 286 ] إفساد جاهه بالتوبة ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12185أبو نواس ل
nindex.php?page=showalam&ids=11876أبي العتاهية وقد لامه على تهتكه في المعاصي :
أتراني يا عتاهي تاركا تلك الملاهي أتراني مفسدا بالن
سك عند القوم جاهي
فمثل هذا إذا تاب من قتل النفس ، وسرقة أموال المعصومين ، وأكل أموال اليتامى ، ولم يتب من شرب الخمر والفاحشة صحت توبته مما تاب منه ، ولم يؤاخذ به ، وبقي مؤاخذا بما هو مصر عليه ، والله أعلم .
[ ص: 284 ] فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=19725_19719وَهَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ ؟
فِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْخِلَافِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّتِهَا ،
كَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ ، وَلَهَا غَوْرٌ ، وَيَحْتَاجُ الْجَزْمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى دَلِيلٍ يَحْصُلُ بِهِ الْجَزْمُ ، وَالَّذِينَ صَحَّحُوهَا احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الْإِسْلَامُ - وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنَ الْكُفْرِ - مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، فَهَكَذَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى آخَرَ .
وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَهُ شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ ، لِقُوَّتِهِ وَنَفَاذِهِ ، وَحُصُولِهِ - تَبَعًا بِإِسْلَامِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا - لِلطِّفْلِ ، وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ نَسَبِ الطِّفْلِ مِنْ أَبِيهِ ، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ بِكَوْنِ سَابِيهِ وَمَالِكِهِ مُسْلِمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا ، وَذَلِكَ لِقُوَّتِهِ ، وَتَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ ، حَتَّى حَصَلَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ بَلْ بِالتَّبَعِيَّةِ .
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19704التَّوْبَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ ، وَأَيُّ رُجُوعٍ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ ، وَأَصَرَّ عَلَى أَلْفِ ذَنْبٍ ؟ .
قَالُوا : وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا لَمْ يُؤَاخِذِ التَّائِبَ ، لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ ، وَتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا ، وَالْمُصِرُّ عَلَى مِثْلِ مَا تَابَ مِنْهُ - أَوْ أَعْظَمَ - لَمْ يُرَاجِعِ الطَّاعَةَ وَلَمْ يَتُبْ تَوْبَةً نَصُوحًا .
قَالُوا : وَلِأَنَّ التَّائِبَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ ، فَقَدْ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَاصِي كَالْكَافِرِ إِذَا
[ ص: 285 ] أَسْلَمَ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْكَافِرِ وَأَمَّا إِذَا أَصَرَّ عَلَى غَيْرِ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَاسْمُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُهُ ، فَلَا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ .
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ ، أَنَّ
التَّوْبَةَ هَلْ تَتَبَعَّضُ ، كَالْمَعْصِيَةِ ، فَيَكُونُ تَائِبًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؟
وَالرَّاجِحُ تَبَعُّضُهَا ، فَإِنَّهَا كَمَا تَتَفَاضَلُ فِي كَيْفِيَّتِهَا كَذَلِكَ تَفَاضَلُ فِي كَمِّيَّتِهَا ، وَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِفَرْضٍ وَتَرَكَ فَرْضًا آخَرَ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا تَرَكَهُ دُونَ مَا فَعَلَهُ ، فَهَكَذَا إِذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ مِنَ الذَّنْبَيْنِ ، فَقَدْ أَدَّى أَحَدَ الْفَرْضَيْنِ وَتَرَكَ الْآخَرَ ، فَلَا يَكُونُ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ ، كَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَأَتَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ .
وَالْآخَرُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ، مَعْنَاهُ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ، وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ ، وَالرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِكَمَالِهَا لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً ، إِذْ هِيَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَالْإِتْيَانُ بِبَعْضِهَا وَتَرْكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا كَالْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا ، فَإِنَّ ارْتِبَاطَ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَشَدُّ مِنَ ارْتِبَاطِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَنَوِّعَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ .
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ : كُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ ، وَهِيَ فَرْضٌ مِنْهُ ، لَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْآخَرِ ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الذَّنْبَيْنِ بِالْآخَرِ .
وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ ، مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى آخَرَ مِنْ نَوْعِهِ ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ ، مَعَ مُبَاشَرَةِ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ ، وَلَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فَتَصِحُّ ، كَمَا إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا ، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ تَوْبَتَهُ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتُوبُ عَنِ الزِّنَا بِامْرَأَةٍ ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهَا ، أَوْ تَابَ مِنْ شُرْبِ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى شُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَتُبْ مِنَ الذَّنْبِ ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَوْعٍ مِنْهُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ ، بِخِلَافِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا فِي الْجِنْسِ ، إِمَّا لِأَنَّ وِزْرَهَا أَخَفُّ ، وَإِمَّا لِغَلَبَةِ دَوَاعِي الطَّبْعِ إِلَيْهَا ، وَقَهْرِ سُلْطَانِ شَهْوَتِهَا لَهُ ، وَإِمَّا لِأَنَّ أَسْبَابَهَا حَاضِرَةٌ لَدَيْهِ عَتِيدَةٌ ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَائِهَا ، بِخِلَافِ مَعْصِيَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْعَاءِ أَسْبَابِهَا ، وَإِمَّا لِاسْتِحْوَاذِ قُرَنَائِهِ وَخُلَطَائِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَدَعُونَهُ يَتُوبُ مِنْهَا ، وَلَهُ بَيْنَهُمْ حَظْوَةٌ بِهَا وَجَاهٌ ، فَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ عَلَى
[ ص: 286 ] إِفْسَادِ جَاهِهِ بِالتَّوْبَةِ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12185أَبُو نُوَاسٍ لِ
nindex.php?page=showalam&ids=11876أَبِي الْعَتَاهِيَةِ وَقَدْ لَامَهُ عَلَى تَهَتُّكِهِ فِي الْمَعَاصِي :
أَتُرَانِي يَا عَتَاهِيُّ تَارِكًا تِلْكَ الْمَلَاهِي أَتُرَانِي مُفْسِدًا بِالنُّ
سْكِ عِنْدَ الْقَوْمِ جَاهِي
فَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَابَ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ ، وَسَرِقَةِ أَمْوَالِ الْمَعْصُومِينَ ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، وَلَمْ يَتُبْ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْفَاحِشَةِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَابَ مِنْهُ ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ ، وَبَقِيَ مُؤَاخَذًا بِمَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .