الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 370 ] فصل في الفرق بين الرواية والشهادة . قال القرافي : أقمت زمانا أتطلب الفرق بينهما بالحقيقة حتى وجدته محققا في كلام المازري في شرح البرهان " ، فإن كثيرا من الناس يفرقون بينهما باختلافهما في بعض الأحكام ، وهو إنما يكون بعد تحقيق فصل كل واحد منهما . وحاصل الفرق أن الرواية والشهادة خبران ، غير أن الخبر إن كان عن حكم عام تعلق بالأمة ، ولا يتعلق بمعين ، مستنده السماع ، فهو الرواية ، وإن كان خبرا جزئيا يتعلق بمعين مستنده المشاهدة أو العلم فهو الشهادة . فالرواية تعم حكم الراوي وغيره على ممر الأزمان ، والشهادة محض المشهود عليه وله ، ولا يتعداهما إلا بطريق التبعية ، ومن ثم كان باب الرواية أوسع من باب الشهادة ; لأن مبنى حقوق الآدميين على التضييق ، والرواية تقتضي شرعا عاما فلا يتعلق بمعين ، فتبعد فيه التهمة ، فلذلك توسع فيه ، فلم يشترط فيه انتفاء القرابة والعرافة ، ولا وجود العدد ، والذكورة ، والحرية . واستشكل الأصفهاني في هذا الفرق بأن عموم الحكم يقتضي الاحتياط والاستظهار بالعدد وجوابه أن الراوي يثبت حكما على نفسه وعلى غيره ، فلم يتطرق إليه التهمة . بخلاف الشاهد ، فإنه يثبت حقا على غيره ، فاحتيط له . وقد ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله - وجوها لمناسبة العدد في الشهادة دون الرواية : [ ص: 371 ] منها : أن الغالب على المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور ، فاحتيج إلى الاستظهار فيها .

                                                      ومنها : أنه قد ينفرد بالحديث النبوي شاهد واحد ، فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة العامة ، بخلاف فوات حق واحد على شخص واحد في المحاكمات ، وبهذا يظهر أن العمل بتزكية الواحد في الرواية أحوط . ومنها : أن بين كثير من المسلمين إحنا وعداوات ، قد تحملهم على شهادة الزور ، بخلاف الأخبار النبوية . واعلم أن الشافعي - رضي الله عنه - قد تعرض للفرق بين الرواية والشهادة في مناظرة له مع صاحب أبي حنيفة ، حكاه الروياني في البحر " في باب شهادة النساء ، فقال : قال الشافعي : والخبر ما استوى فيه المخبر والمخبر والعامة من حلال وحرام ، والشهادة ما كان الشاهد فيه خليا والعامة ، وإنما يلزم المشهودة عليه . ثم قال الروياني : فإن قيل ما معنى قول الشافعي : الخبر ما استوى فيه المخبر والمخبر ، ومن الأخبار ما لا يلزم الراوي به حكم ، ويلزم غيره ، ومن الشهادات ما يلزم الشاهد بها الحكم ، كما يلزم المشهود عليه ، وهو الشهادة على الصوم والفطر ؟ قلنا : قال الشافعي هذا ، وأراد ما فسره به من تحليل وتحريم اللذين هما مؤبدان لا ينقطعان ، وليس كذلك ما ذكروه في الصوم والفطر وغير ذلك مما يقطع . وحكى ابن القاص عن أبي الطيب بن سلمة أنه كان يقول : قد [ ص: 372 ] يستوي الشاهد والمشهود عليه في الحكم ، وهو ما إذا شهد اثنان من الورثة على الميت بدين لإنسان ، فإنه يلزمهما من الدين ما يلزم الجاحد من الورثة ، وقد يكون في الأخبار من يختص به غيره ، ولا يجب على الراوي به شيء ، ولكن أراد الشافعي بما قاله الغالب من أمرهما ، فإن الغالب من الشهادة أن الشاهد لا يدخل فيما يجب له ، والغالب من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم استواء المخبر ، وسائر الناس فيه . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية