فصل
واحتج الفريق الآخر - وهم القائلون بأنه لا يعود إليه إثم الذنب الذي تاب منه بنقض التوبة - بأن ذلك الإثم قد ارتفع بالتوبة ، وصار بمنزلة ما لم يعمله ، وكأنه لم يكن ، فلا يعود إليه بعد ذلك ، وإنما العائد إثم المستأنف لا الماضي .
قالوا : ولا يشترط في صحة التوبة العصمة إلى الممات ، بل
nindex.php?page=treesubj&link=19718_19719_19729إذا ندم وأقلع وعزم على الترك محي عنه إثم الذنب بمجرد ذلك ، فإذا استأنفه استأنف إثمه .
قالوا : فليس هذا كالكفر الذي يحبط الأعمال ، فإن الكفر له شأن آخر ، ولهذا يحبط جميع الحسنات ، ومعاودة الذنب لا تحبط ما تقدمه من الحسنات .
قالوا :
والتوبة من أكبر الحسنات ، فلو أبطلتها معاودة الذنب لأبطلت غيرها من الحسنات ، وهذا باطل قطعا ، وهو يشبه مذهب
الخوارج المكفرين بالذنب ،
والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة التي تقدمها الألوف من الحسنات ، فإن الفريقين متفقان على
nindex.php?page=treesubj&link=30443خلود أرباب الكبائر في النار ، ولكن
الخوارج كفروهم ،
والمعتزلة فسقوهم ، وكلا المذهبين باطل في دين الإسلام ، مخالف للمنقول والمعقول وموجب العدل
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما .
[ ص: 292 ] قالوا : وقد ذكر الإمام
أحمد في مسنده مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980209إن الله يحب العبد المفتن التواب .
قلت : وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه ، فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوبا للرب ، ولكان ذلك أدعى إلى مقته .
قالوا : وقد علق الله سبحانه
قبول التوبة بالاستغفار ، وعدم الإصرار ، دون المعاودة ، فقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون والإصرار عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به ، فهذا الذي يمنع مغفرته .
قالوا : وأما
nindex.php?page=treesubj&link=27338_19716استمرار التوبة فشرط في صحة كمالها ونفعها ، لا شرط في صحة ما مضى منها ، وليس كذلك العبادات ، كصيام اليوم ، وعدد ركعات الصلاة ، فإن تلك عبادة واحدة ، لا تكون مقبولة إلا بالإتيان بجميع أركانها وأجزائها ، وأما التوبة فهي عبادات متعددة بتعدد الذنوب ، فكل ذنب له توبة تخصه ، فإذا أتى بعبادة وترك أخرى لم يكن ما ترك موجبا لبطلان ما فعل ، كما تقدم تقريره .
بل نظير هذا أن يصوم من رمضان ويفطر منه بلا عذر ، فهل يكون ما أفطره منه مبطلا لأجر ما صامه منه ؟ .
بل نظير من صلى ولم يصم ، أو زكى ولم يحج .
ونكتة المسألة أن
nindex.php?page=treesubj&link=30531التوبة المتقدمة حسنة ، ومعاودة الذنب سيئة ، فلا تبطل معاودته هذه الحسنة ، كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات .
قالوا : وهذا على أصول أهل السنة أظهر ، فإنهم متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين ، ويكون محبوبا لله مبغوضا له من وجهين أيضا ، بل يكون فيه إيمان ونفاق ، وإيمان وكفر ، ويكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الآخر ، فيكون من أهله ، كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان وقال
[ ص: 293 ] nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=106وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك ، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله ، وإن كان معه تصديق لرسله ، وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل وباليوم الآخر ، فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر .
وشركهم قسمان :
nindex.php?page=treesubj&link=29436شرك خفي ، وشرك جلي ، فالخفي قد يغفر ، وأما الجلي فلا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به .
وبهذا الأصل أثبت أهل السنة
nindex.php?page=treesubj&link=30437دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة ، لما قام بهم من السببين .
فإذا ثبت هذا فمعاود الذنب مبغوض لله من جهة
nindex.php?page=treesubj&link=19719معاودة الذنب ، محبوب له من جهة توبته وحسناته السابقة ، فيرتب الله سبحانه على كل سبب أثره ومسببه بالعدل والحكمة ، ولا يظلم مثقال ذرة
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وما ربك بظلام للعبيد .
فَصْلٌ
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ - وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِنَقْضِ التَّوْبَةِ - بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِثْمَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْعَائِدُ إِثْمُ الْمُسْتَأْنَفِ لَا الْمَاضِي .
قَالُوا : وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ الْعِصْمَةُ إِلَى الْمَمَاتِ ، بَلْ
nindex.php?page=treesubj&link=19718_19719_19729إِذَا نَدِمَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ عَلَى التَّرْكِ مُحِيَ عَنْهُ إِثْمُ الذَّنْبِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَهُ اسْتَأْنَفَ إِثْمَهُ .
قَالُوا : فَلَيْسَ هَذَا كَالْكُفْرِ الَّذِي يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ، فَإِنَّ الْكُفْرَ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ ، وَلِهَذَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ ، وَمُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ لَا تُحْبِطُ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ .
قَالُوا :
وَالتَّوْبَةُ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ ، فَلَوْ أَبْطَلَتْهَا مُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ لَأَبْطَلَتْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ
الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ بِالذَّنَبِ ،
وَالْمُعْتَزِلَةِ الْمُخَلِّدِينَ فِي النَّارِ بِالْكَبِيرَةِ الَّتِي تُقَدَّمُهَا الْأُلُوفُ مِنَ الْحَسَنَاتِ ، فَإِنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30443خُلُودِ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ ، وَلَكِنَّ
الْخَوَارِجَ كَفَّرُوهُمْ ،
وَالْمُعْتَزِلَةَ فَسَّقُوهُمْ ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ، مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَمُوجَبِ الْعَدْلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا .
[ ص: 292 ] قَالُوا : وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980209إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ .
قُلْتُ : وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا فُتِنَ بِالذَّنْبِ تَابَ مِنْهُ ، فَلَوْ كَانَتْ مُعَاوَدَتُهُ تُبْطِلُ تَوْبَتَهُ لَمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِلرَّبِّ ، وَلَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى مَقْتِهِ .
قَالُوا : وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
قَبُولَ التَّوْبَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ ، دُونَ الْمُعَاوَدَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَالْإِصْرَارُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى ارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَتَى ظَفِرَ بِهِ ، فَهَذَا الَّذِي يَمْنَعُ مَغْفِرَتَهُ .
قَالُوا : وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=27338_19716اسْتِمْرَارُ التَّوْبَةِ فَشَرْطٌ فِي صِحَّةِ كَمَالِهَا وَنَفْعِهَا ، لَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ مَا مَضَى مِنْهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ ، كَصِيَامِ الْيَوْمِ ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ تِلْكَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً إِلَّا بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَأَجْزَائِهَا ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَهِيَ عِبَادَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ الذُّنُوبِ ، فَكُلُّ ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ ، فَإِذَا أَتَى بِعِبَادَةٍ وَتَرَكَ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ مَا تَرَكَ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ مَا فَعَلَ ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ .
بَلْ نَظِيرُ هَذَا أَنْ يَصُومَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُفْطِرَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ ، فَهَلْ يَكُونُ مَا أَفْطَرَهُ مِنْهُ مُبْطِلًا لِأَجْرِ مَا صَامَهُ مِنْهُ ؟ .
بَلْ نَظِيرُ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَصُمْ ، أَوْ زَكَّى وَلَمْ يَحُجَّ .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30531التَّوْبَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ حَسَنَةٌ ، وَمُعَاوَدَةَ الذَّنْبِ سَيِّئَةٌ ، فَلَا تُبْطِلُ مُعَاوَدَتُهُ هَذِهِ الْحَسَنَةَ ، كَمَا لَا تُبْطِلُ مَا قَارَنَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ .
قَالُوا : وَهَذَا عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَظْهَرُ ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِيهِ وَلَايَةٌ لِلَّهِ وَعَدَاوَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَيَكُونُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ مَبْغُوضًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا ، بَلْ يَكُونُ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ ، وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ ، وَيَكُونُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْآخَرِ ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَقَالَ
[ ص: 293 ] nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=106وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهِ مَعَ مُقَارَنَةِ الشِّرْكِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا الشِّرْكِ تَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ تَصْدِيقٌ لِرُسُلِهِ ، وَهُمْ مُرْتَكِبُونَ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الشِّرْكِ لَا تُخْرِجُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَهَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ لِلْوَعِيدِ أَعْظَمَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ أَرْبَابِ الْكَبَائِرِ .
وَشِرْكُهُمْ قِسْمَانِ :
nindex.php?page=treesubj&link=29436شِرْكٌ خَفِيٌّ ، وَشِرْكٌ جَلِيٌّ ، فَالْخَفِيُّ قَدْ يُغْفَرُ ، وَأَمَّا الْجَلِيُّ فَلَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ .
وَبِهَذَا الْأَصْلِ أَثْبَتَ أَهْلُ السُّنَّةِ
nindex.php?page=treesubj&link=30437دُخُولَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ ثُمَّ خُرُوجَهُمْ مِنْهَا وَدُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ ، لِمَا قَامَ بِهِمْ مِنَ السَّبَبَيْنِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمُعَاوِدُ الذَّنْبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ مِنْ جِهَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=19719مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ ، مَحْبُوبٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ تَوْبَتِهِ وَحَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ ، فَيُرَتِّبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ أَثَرَهُ وَمُسَبِّبَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .