الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : - رحمه الله تعالى ( وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من الثمر أو الشجر ، لا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس به لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فأوجب التيمم على من لم يجد الماء ، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره ، { ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها في دم الحيض يصيب الثوب : حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء } فأوجب الغسل بالماء ، فدل على أنه لا يجوز بغيره ) .

                                      التالي السابق


                                      " الشرح " أما حديث أسماء فرواه البخاري ومسلم بمعناه ، لكن عن أسماء { أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : تحته ثم تقرصه بالماء } وفي رواية : { فلتقرصه ثم لتنضحه بماء } هذا لفظه في الصحيح ، وليس في الصحيح أن أسماء هي السائلة ولا في كتب الحديث المعتمدة ، لكن رواه الشافعي في الأم كذلك في رواية ضعيفة بعد أن رواه عن أسماء : أن امرأة سألت ، وقد أنكر جماعة على المصنف روايته أن أسماء هي السائلة وغلطوه فيه ، وليس هو بغلط ، بل رواه الشافعي كما [ ص: 139 ] ذكرنا ، والمراد : متن الحديث وهو صحيح ، ولو اعتنى المصنف بتحقيق الحديث وأتى برواية الصحيحين لكان أكمل له وأبرأ لدينه وعرضه ، ومعنى حتيه حكيه ، ومعنى اقرصيه قطعيه واقلعيه بظفرك ، والدم مخفف الميم على اللغة الفصيحة المشهورة ، وتشدد الميم في لغة ، والاستدلال من الآية والحديث ليس بالمفهوم ، بل أمر بالتيمم والغسل بالماء فمن غسل بمائع فقد ترك المأمور به ، وأما حكم المسألة : وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا ، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم ، وحكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الأصم : أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بكل مائع طاهر ، قال القاضي أبو الطيب : إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به ، وقال أبو حنيفة : يجوز الوضوء بالنبيذ على شرط سأذكره في فرع مستقل ، وأذكر إزالة النجاسة في فرع آخر - إن شاء الله تعالى - واحتج لابن أبي ليلى بأنه : مائع طاهر فأشبه الماء ، واحتج الأصحاب بالآية التي ذكرها المصنف ، وبأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدمون الماء في أسفارهم ومعهم الدهن وغيره من المائعات وما نقل عن أحد منهم الوضوء بغير ماء ، ولا يصح القياس على الماء ، فإن الماء جمع اللطافة وعدم التركيب من أجزاء وليس كذلك غيره .

                                      وأما قول الغزالي في الوسيط : طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالإجماع ، فمحمول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه ، وأما الأصم فلا يعتد بخلافه ، وقد أوضحت حال الأصم في تهذيب الأسماء واللغات ، وقد قال ابن المنذر في الأشراف وكتاب الإجماع : أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز الوضوء بماء الورد والشجر والعصفر وغيره مما لا يقع عليه اسم ماء ، وهذا يوافق نقل الغزالي .

                                      ( فرع ) أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من عسل أو تمر أو زبيب أو غيرها مطبوخا كان أو غيره ، فإن نش وأسكر [ ص: 140 ] فهو نجس يحرم شربه ، وعلى شاربه الحد ، وإن لم ينش فطاهر لا يحرم شربه ولكن لا تجوز الطهارة به ، هذا تفصيل مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور .

                                      وعن أبي حنيفة أربع روايات ( إحداهن ) : يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ إذا كان في سفر وعدم الماء ( والثانية ) : يجوز الجمع بينه وبين التيمم ، وبه قال صاحبه محمد بن الحسن ( والثالثة ) : يستحب الجمع بينهما ( الرابعة ) : أنه رجع عن جواز الوضوء به وقال يتيمم ، وهو الذي استقر عليه مذهبه ، كذا قاله العبدري ، قال : وروي أنه قال : الوضوء بنبيذ التمر منسوخ ، وحكي عن الأوزاعي الوضوء بكل نبيذ ، وحكى الترمذي عن سفيان الوضوء بالنبيذ .

                                      واحتج لمن جوز برواية شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم { قال له ليلة الجن : هل في إداوتك ماء ؟ قال : لا إلا نبيذ تمر ، قال : ثمرة طيبة وماء طهور ، وتوضأ به } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم ، وعن ابن عباس رفعه : { النبيذ وضوء من لم يجد الماء } وعن علي وابن عباس وغيرهما موقوفات ، واحتج أصحابنا بالآية : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وقد سبق وجه التمسك بالآية ، فمن توضأ بالنبيذ فقد ترك المأمور به ، ولهم أسئلة ضعيفة على الآية ، لا يلتفت إليها وبحديث أبي ذر : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال : { الصعيد الطيب وضوء المسلم ، ولو لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته } حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي في سننهم ، والحاكم أبو عبد الله محمد بن البيع في المستدرك على الصحيحين . قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال الحاكم : حديث صحيح ، والاستدلال منه كالاستدلال من الآية . ومن القياس كل شيء لا يجوز التطهر به حضرا لم يجز سفرا كماء الورد ; ولأنه مائع لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء فلم يجز مع عدمه كماء الباقلا ; ولأنه شراب فيه شدة مطربة فأشبه الخمر ; ولأنه مائع لا يطلق [ ص: 141 ] عليه اسم ماء كالخل .

                                      وأما الجواب عن شبههم فحديث ابن مسعود ضعيف بإجماع المحدثين . قال الترمذي وغيره : لم يروه غير أبي زيد مولى ابن حريث ، وهو مجهول لا يعرف ولا يعرف عنه غير هذا الحديث . وقد ثبت في صحيح مسلم عن علقمة قال : { سألت ابن مسعود هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا : استطير أو اغتيل ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ؟ فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم ، وآثار نيرانهم } وفي صحيح مسلم أيضا عن علقمة عن عبد الله قال : { لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووددت أني كنت معه } ، فثبت بهذين الحديثين مع ما ذكرناه من اتفاق الحفاظ على تضعيف حديث النبيذ بطلان احتجاجهم .

                                      وأجاب أصحابنا مع هذا بأربعة أجوبة ( أحدها ) : أنه حديث مخالف الأصول فلا يحتج به عند أبي حنيفة ( والثاني ) : أنهم شرطوا لصحة الوضوء بالنبيذ السفر ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شعاب مكة كما ذكرناه ( الثالث ) : أن المراد بقوله : نبيذ أي ماء نبذت فيه تمرات ليعذب ، ولم يكن متغيرا ، وهذا تأويل سائغ ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ثمرة طيبة وماء طهور } فوصف النبي صلى الله عليه وسلم شيئين ليس النبيذ واحدا منهما ، فإن قيل : فابن مسعود نفى أن يكون معه ماء . وأثبت النبيذ ، فالجواب : أنه إنما نفى أن يكون معه ماء معد للطهارة ، وأثبت أن معه ماء نبذ فيه تمرا معدا للشرب ، وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة وتأويل كلام ابن مسعود أولى من عكسه .

                                      ( الرابع ) : أن النبيذ الذي زعم أنه كان مع ابن مسعود لا يجوز الطهارة به عندهم ; لأنه نقيع [ ص: 142 ] لا مطبوخ ، فإن العرب لا تطبخه ، وإنما تلقي فيه حبات تمر حتى يحلو فتشربه ، وذكر الأصحاب أجوبة كثيرة غير ما ذكرنا وفيما ذكرنا كفاية ، وأما حديث ابن عباس والآثار عنه وعن علي وغيرهما فكلها ضعيفة واهية ، ولو صحت لكان عنها أجوبة كثيرة ، ولا حاجة إلى تضييع الوقت بذكرها بلا فائدة ، ولقد أحسن وأنصف الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي إمام الحنفية في الحديث والمنتصر لهم حيث قال في أول كتابه : إنما ذهب أبو حنيفة ومحمد إلى الوضوء بالنبيذ اعتمادا على حديث ابن مسعود ، ولا أصل له فلا معنى لتطويل كتابي بشيء فيه .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور إلا بالماء ، فلا تجوز بخل ولا بمائع آخر ، وممن نقل هذا عنه مالك ومحمد بن الحسن وزفر وإسحاق بن راهويه ، وهو أصح الروايتين عن أحمد .

                                      وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وداود : يجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل مائع يسيل إذا غسل به ثم عصر كالخل وماء الورد ، ولا يجوز بدهن ومرق ، وعن أبي يوسف رواية : أنه لا يجوز في البدن بغير الماء ، واحتج لهم بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه ، فإذا أصابه شيء من دم قالت : بريقها فمصعته بظفرها " رواه البخاري ، ومصعته بفتح الميم والصاد والعين المهملتين أي أذهبته ، وعن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت { قلت : يا رسول الله إني امرأة أطيل ذيلي فأجره على المكان القذر فقال صلى الله عليه وسلم : يطهره ما بعده } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه

                                      وموضع الدلالة أنها طهارة بغير الماء ، فدل على عدم اشتراطه ، وبحديث أبي سعيد الخدري : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه ، وليصل فيهما } حديث حسن رواه أبو داود بإسناد صحيح ، وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى ، فإن التراب له طهور } رواه أبو داود ، والدلالة من هذين ، كهي مما قبلهما .

                                      [ ص: 143 ] وذكروا أحاديث لا دلالة فيها كحديث { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه } وبأي شيء غسله سمي غاسلا . قالوا : ولأنه مائع طاهر فأشبه الماء ; ولأنها عين تجب إزالتها للعبادة فجاز بغير الماء كالطيب عن ثوب المحرم وهذا يعتمدونه ; ولأن الحكم يتعلق بعين النجاسة فزال بزوالها ; ولأن المراد إزالة العين والخل أبلغ ; ولأن الخمر إذا انقلبت خلا طهرت وطهر الدن ، وما طهر إلا بالخل ; ولأنها نجاسة فلا يتعين لها الماء كنجاسة النجو ; ولأن الهرة لو أكلت فأرة ثم ولغت في إناء ، لم تنجسه ، فدل على أن ريقها طهر فمها .

                                      واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } فذكره سبحانه وتعالى امتنانا ، فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان ، وبحديث أسماء المذكور ، وتقدم بيان وجه الدلالة ; ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إزالة النجاسة بغير الماء ونقل إزالتها بالماء ، ولم يثبت دليل صريح في إزالتها بغيره ، فوجب اختصاصه إذ لو جاز بغيره لبينه مرة فأكثر ، ليعلم جوازه كما فعل في غيره ; ولأنها طهارة شرعية فلم تجز بالخل ، كالوضوء ; ولأن حكم النجاسة أغلظ من حكم الحدث بدليل : أنه يتيمم عن الحدث دونها ، ولو وجد من الماء ما يكفيه لأحدهما غسلها ، والمستعمل في النجاسة نجس عند أبي حنيفة ، وكذا عندنا إن انفصل ولم يطهر المحل على الأظهر .

                                      والمستعمل في الحدث طاهر عندنا ، وكذا على الأصح عن أبي حنيفة ، فإذا لم يجز الوضوء بغير الماء فالنجاسة التي هي أغلظ أولى .

                                      وأما الجواب عن أدلتهم فحديث عائشة ، أجاب عنه الشيخ أبو حامد وغيره : بأن مثل هذا الدم اليسير لا تجب إزالته ، بل تصح الصلاة معه ويكون عفوا ، ولم ترد عائشة غسله وتطهيره بالريق ، ولهذا لم تقل كنا نغسله بالريق ، وإنما أرادت إذهاب صورته لقبح منظره ، فيبقى المحل نجسا كما كان ولكنه معفو عنه لقلته . وهذا الجواب على مذهب من [ ص: 144 ] يقول : قول الصحابي : كنا نفعل كذا يكون مرفوعا ، وإن لم يضفه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما من اشترط الإضافة فلا يكون عنده مرفوعا بل يكون موقوفا .

                                      ويجيء فيه التفصيل في قول الصحابي هل انتشر أم لا ؟ وهل هو حجة في الحالين أم لا ؟ وفي كل هذا خلاف قدمناه واضحا في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح .

                                      وأما حديث أم سلمة فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) : أنه ضعيف ; لأن أم ولد إبراهيم مجهولة ( والثاني ) : أن المراد بالقذر نجاسة يابسة ، ومعنى يطهره ما بعده أنه إذا انجر على ما بعده من الأرض ذهب ما علق به من اليابس ، هكذا أجاب أصحابنا وغيرهم ، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : ويدل على هذا التأويل الإجماع أنها لو جرت ثوبها على نجاسة رطبة فأصابته لم يطهر بالجر على مكان طاهر ، وكذا نقل الإجماع في هذا أبو سليمان الخطابي ، ونقل الخطابي هذا التأويل عن آباء عبد الله مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - .

                                      وأما حديث أبي سعيد فلنا في المسألة قولان : القديم : أن مسح أسفل الخف الذي لصقت به نجاسة كاف في جواز الصلاة فيه ، مع أنه نجس عفي عنه ، والجديد : أنه ليس بكاف ، فعلى هذا الجواب أن الأذى المذكور محمول على مستقذر طاهر كمخاط وغيره مما هو طاهر أو مشكوك فيه ، وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود من طرق كلها ضعيفة ولو صح لأجيب عنه بنحو ما سبق . وأما حديث { إذا ولغ الكلب } فالغسل فيه وفي غيره من الأحاديث المطلقة محمول على الغسل بالماء ; لأنه المعروف المعهود السابق إلى الفهم عند الإطلاق .

                                      قال أصحابنا : ولا يعرف الغسل في اللغة بغير الماء ، وأما قياسهم على الماء فباطل ; لأنه يرفع الحدث بخلاف المائع ; ولأنه ينتقض بالدهن والمرق . وقياسهم على الطيب مردود من وجهين ( أحدهما ) : أن إزالة الطيب وغسله ليس واجبا ، بل الواجب إذهاب رائحته وإهلاكها ، بدليل أنه لو طلى عليه [ ص: 145 ] طينا أو غسله بدهن كفاه ( والثاني ) : أن النجاسة بطهارة الحدث أشبه من إزالة الطيب ، فإلحاق طهارة بطهارة أولى ، وأما قولهم : الحكم يتعلق بعين النجاسة فزال بزوالها فليس بلازم ، وينتقض بلحم الميتة إذا وقع في ماء قليل فينجسه ، وإذا زال لا يزول التنجيس .

                                      وقولهم : الخل أبلغ ، غير مسلم ; لأن في الماء لطافة ورقة ليست في الخل وغيره ، ولو صح ما قالوه لكان إزالة النجاسة بالخل أفضل وأجمعنا بخلافه وأما قولهم : الدن يطهر بالخل فغير صحيح ، بل يطهر تبعا للخل للضرورة ، ولو كان الخل هو الذي طهره لنجس الخل ; لأن المائع إذا أزيلت به النجاسة تنجس عندهم ; ولأنه لو كان مطهرا لوجب أن تتقدم طهارته في نفسه ، ولو كان كذلك لم يطهر الخل لحصوله في محل نجس .

                                      وأما نجاسة النجو فإذا استنجى بالأحجار عفي عما بقي للضرورة ، وهي رخصة ورد الشرع بها ، ولا خلاف أن المحل يبقى نجسا ، ولهذا لو انغمس في ماء قليل نجسه فلم تحصل إزالة نجاسة بغير الماء .

                                      وأما مسألة الهرة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا مذكورة بعد هذا . فإن قلنا : بطهارة ما ولغت فيه ، فليس هو لطهارة فمها بريقها ، بل ; لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفي عنها كأثر الاستنجاء .

                                      وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن لا يسأم من طول بعض المسائل ، فإنها لا تطول إن شاء الله تعالى إلا بفوائد وتمهيد قواعد ، ويحصل في ضمن ذكر مذاهب العلماء ودلائلها وأجوبتها فوائد مهمة نفيسة ، وتتضح المشكلات ، وتظهر المذاهب المرجوحة من الراجحة ، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب ، ويتنقح ذهنه ، ويتميز عند أولي البصائر والألباب ، ويتعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة ، والدلائل الراجحة من المرجوحة ، ويقوى للجمع بين الأحاديث التي تظن متعارضات ، ولا يخفى عليه بعد ذلك إلا إفراد نادرات وبالله التوفيق .

                                      ( فرع ) قال الشافعي في أول مختصر المزني : وما عدا الماء من ماء ورد أو شجر أو عرق لا تجوز الطهارة به ، واختلف أصحابنا في ضبط قوله : " عرق " [ ص: 146 ] فقيل : هو بفتح العين والراء وهو عرق الحيوان ، وقيل : بفتح العين وإسكان الراء وهو المعتصر من كرش البعير ، وقد نص على هذا في الأم وقيل : بكسر العين وإسكان الراء وهو عرق الشجر أي المعتصر منه والأول أصح ، والثالث ضعيف ; لأنه عطفه على الشجر والثاني فيه بعد ; لأنه نجس لا يخفى امتناع الطهارة به فلا يحتاج إلى بيان .



                                      ( فرع ) إذا أغلى مائعا فارتفع من غليانه بخار ، تولد منه رشح فليس بطهور بلا خلاف كالعرق ، ولو أغلي ماء مطلقا فتولد منه الرشح ، قال صاحب البحر : قال بعض أصحابنا بخراسان : لفظ الشافعي يقتضي أنه لا تجوز الطهارة به ; لأنه عرق ، قال الروياني : وهذا غير صحيح عندي ; لأن رشح الماء ماء حقيقة . وينقص منه بقدره فهو ماء مطلق فيتطهر به .

                                      ( قلت ) : الأصح جواز الطهارة به والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية