الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بسم الله الرحمن الرحيم

                                                          (بسم ) الباء هنا هي حرف جر يدل على السببية ، وهي مبنية على الكسر كـ " لام " الأمر ، والمعنى : بسبب اسم الله الذي لا يعبد سواه وأنه الرحمن الرحيم أبتدئ ، فهي متعلقة بمحذوف يذكر بعدها ، لبيان اختصاص الابتداء أو التبرك باسم الله تعالى ، فالتأخير يفيد الاهتمام بمتعلق الباء ومزيد الاختصاص بالاستعانة والتيمن والتبرك به .

                                                          والبسملة يبدأ بها في كل أمر ذي بال ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر " والفعل الذي تعلقت به الباء محذوف ، وكما ذكرنا يقدر مؤخرا ، لأن المقدم يكون محل التخصيص .

                                                          ولأن البسملة يبدأ بها كل أمر ذي بال ، فإنه يقدر الفعل على حسب ما نبتدئ البسملة ، ويرى بعض المفسرين أن يقدر الفعل المحذوف " أبتدئ " ، لأنه يكون صالحا ، لكل أمر ذي بال وشأن ، والآخرون قالوا : إنه يقدر في القرآن أتلو أو أقرأ أو أرتل أو نحو ذلك ، وبعض العلماء قال : إنها في القرآن الكريم في معنى القسم بأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتكون على هذا للقسم ، ويقدر الفعل بـ " أقسم " . والمعنى على ذلك في أول كل سورة اجعل قسمك بالله الرحمن الرحيم أن ما تتلو هو الحق الذي لا ريب فيه ، فهو الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين .

                                                          [ ص: 50 ] و (الله ) هو لفظ الجلالة الدال على أنه وحده له كمال العبودية ، واسم الله - قال بعض العلماء إنه المراد فيه الذات العلية فهو اسم يعني المسمى . والمعنى هو القسم بالذات العلية ، وقرر بعض العلماء أن الاسم الأعلى هو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية ، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله ، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك ، فليس المراد بالاسم الذات ; لأنها مذكورة ، كما قال تعالى : تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ، وقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى ، وهذا ما نميل إليه ; لأنه لا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره ، ولأن إطلاق الاسم على المسمى من قبيل المجاز ، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة ، ولأن قصد الاسم الأسمى ابتداء يفيد معنيين ، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله ، وتقديس المسمى وهو الله سبحانه . ولو أطلق الاسم على المسمى ، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعلاء للاسم في ذاته ، ولا شك أن الأول أبلغ تسبيح لله تعالى لقاء التبرك بذكره ، والتيمن به سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

                                                          وكلمة (الله ) تعالى لا تطلق إلا على الذات العلية خالق الكون ، ومنشئ الوجود على غير مثال سبق ، بديع السماوات والأرض . وقالوا : إن أصل كلمة الله : الإله ، ثم كان حذف الهمزة ، مع تقدير أنها مطوية في الكلام مقدرة فيه . والإله تطلق على المعبود ، وتعم المعبود بحق وبغير حق ، ولكن كلمة (الله ) تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق ، فيقال : آلهة المشركين ، وآلهة الرومان ، وآلهة المصريين ، ولا يقال : " الله " إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة ; ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين ، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ ، وأنه غير آلهتهم ، فكانوا يقولون : الآلهة هبل ، واللات ، والعزى ، ومناة الثالثة ; يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه " الله " ، لقد قال تعالى [ ص: 51 ] عنهم : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ، وكان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى ، وجدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض فهو الجدير وحده بالعبادة ، اقرأ قوله تعالى : أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

                                                          ونرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى ، وأنه الخالق لكل شيء وما كانوا يطلقون كلمة " الله " إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد والإبداع ، وما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله ، وهذا عرف لغتهم ودلالتها .

                                                          (الرحمن الرحيم ) هذان وصفان لله تعالى قرنا في البسملة ، وكلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى في ذاته وعلى خلقه ، والرحمة رقة في القلب ، والله تعالى لا يتصف بذلك ; لأن هذا من صفات الحوادث ، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها ، وثمرتها ، وثمرة الرحمة الإنعام الكامل ، والنفع ودفع الضر ، والرزق ، وغفران الذنوب ، وكلاءة الله تعالى لهم ، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة .

                                                          [ ص: 52 ] والوصفان اقترنا واجتمعا في البسملة ، كما اجتمعا في بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس ، إذ قال تعالى : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم وهذه بسملة كبسملة أوائل السور ، كما اجتمع الوصفان في آيتين أخريين من آيات القرآن ، ففي أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم ، وقال سبحانه عن الذكر تنـزيل من الرحمن الرحيم وجاء في سورة الحشر هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم .

                                                          ولا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى وصفاته ، ولا شك أن لكل منهما معنى قائما بذاته ، منفردا به عن الآخر . يقول الزمخشري (نقلا عن الزجاج ) : إن صيغة فعلان من الصيغ التي تدل على الامتلاء ، كغضبان ، وشبعان ، وسكران ، وجوعان ، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتقت منه ، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة ، ورحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التي تليق بذاته العلية من غير امتلاء .

                                                          ولذلك يقول الزمخشري ومن تبعه في دراساته البيانية للقرآن الكريم : إن " الرحمن " أبلغ من " الرحيم " ، وإن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشري وما ترى فيه من تفاوت ، وإن كان كله في أعلى درجات البيان لا يساويه بيان للإنسان . وبدراسة اللفظين في القرآن يتبين لنا الفرق بينهما في الاستعمال القرآني السامي في بلاغته إلى ما لا يتسامى إليه كلام بشر ، ولا يدانيه شيء من الكلام الإنساني .

                                                          وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين في آيتين غير البسملة وقد ذكرتا ، وذكر وصف الرحمن منفردا في نحو ستين [ ص: 53 ] موضعا من كتاب الله العزيز ، وكان يذكر ذلك الوصف السامي غير مضاف إلى فعل من الأفعال ، ولا واقع على أحد كقوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وكقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، وقوله تعالى : الرحمن علم القرآن ، ومثل قوله تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .

                                                          وهكذا في نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شيء أو شخص أو فعل كما يذكر " الله " تعالى ، وذكر وصف الرحيم منفردا عن الرحمن في أكثر من ثلاثين ومائة آية ، ونجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه وتعالى بالعباد مثل قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ، ومثل قوله تعالى : إن الله بالناس لرءوف رحيم ، ومثل قوله تعالى : فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم .

                                                          ومن هذه الموازنات بين استعمال القرآن لكلمة " رحمن " ، واستعماله لكلمة " رحيم " ننتهي إلى ما يأتي :

                                                          أولا : أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر ، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة ، ولكنه يشعرنا بالرحمة ، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة ; ولذلك قال بعض العلماء : إن كلمة " الرحمن " اسم لله تعالى ، وأما " الرحيم " فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته ، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره ، واجتناب نواهيه ; ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة .

                                                          [ ص: 54 ] ثانيا : أن الرحمة في " الرحمن " أكثر من " الرحيم " ، ولذلك قالوا : إن رحمة الرحمن ، هي الرحمة بالوجود كله ، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السماوات والأرض ، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث ، ويرسل الرياح ، ومهد الأرض ، وجعل الجبال ، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون .

                                                          وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله ، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين .

                                                          ثالثا : أن " الرحمن " أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله ، ووصف " الرحيم " خاص بالمكلفين ، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم .

                                                          ومن هذا الاستقراء والتتبع ، واستنباط المعاني لألفاظ (الرحمن الرحيم ) من استعمال القرآن ننتهي إلى أن بيان معاني (بسم الله الرحمن الرحيم ) أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس . نتبرك به ونتيمن ونسبح باسمه ، وهو الله الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير والمتفرد بالعبودية وحده جل جلاله لأنه بديع السماوات والأرض والوجود كله ، وهو " الرحمن " ذو الرحمة الواسعة التي تعم الوجود كله في السماوات والأرض ، والدنيا والآخرة ، المدبر للوجود برحمته ، وهو " الرحيم " بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم ، ويشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرا لهم في معادهم ومعاشهم ، وهو بكل شيء عليم .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية