الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فصل )

                          ( في اختلاف المسلمين في الرؤية وكلام الرب - تعالى - وتحقيق الحق فيهما )

                          كان جماعة الصحابة - رضوان الله عليهم - يفهمون هذه الآيات وأمثالها ، ولا يرون فيها إشكالا ، وهم أعلم العرب بلغة القرآن ، وبمراد الله - تعالى - من آياته فيه ، لتلقيهم إياها من الرسول المنزلة عليه المأمور فيها ببيانها للناس ، ثم انتشر الإسلام ، ودخل فيه من الأعاجم من كانوا على أديان مختلفة ، وصاروا يتلقون لغته بالتلقين ، ويقتبسونها بمعاشرة العرب الخلص ثم بالتعليم الفني ، ثم صارت السلائل العربية كذلك ثم حدثت في الجميع الاصطلاحات العلمية والفنية لما وضعوا من العلوم الشرعية كأصول العقائد والفقه والحديث ، واللغوية : كالنحو والصرف والبيان ، ولما ترجموا من كتب علوم الأوائل ، وما زادوا فيها من الرياضيات والعقليات والوجدانيات وسائر سنن الموجودات ، فامتزجت هذه الاصطلاحات بلغة القرآن والحديث ، فصارت آلات لفهمهما ، وسببا للخطأ في تعيين بعض المراد منهما .

                          ثم حدث ما هو أدعى إلى الخطأ في الفهم ، وهو عصبية المذاهب والشيع التي فرقت بين المسلمين ، على ما جاء في التفرق والتفريق من الوعيد الشديد ، فصار كل منتم إلى شيعة وحزب لا ينظر في الكتاب والسنة إلا بالمنظار المعبر عنه بمذهب الحزب ، وإن كان من أهل النظر والاستدلال ، ومدعي الاجتهاد والاستقلال ، والبداهة قاضية بالتضاد بين التقيد بالمذاهب والاستقلال الصحيح المسمى عندهم بالاجتهاد المطلق .

                          وهنالك سبب آخر ، وهو حشر الإسرائيليات والروايات الموضوعة والواهية في تفسير القرآن وكتب السنة ، وتقاصر الأكثرين عن تمحيصها ، والتمييز بين حقها وباطلها ، حتى إن بعض الإسرائيليات قد اشتبه بالأحاديث المرفوعة كما بينه بعض الحفاظ ، ومنهم ابن كثير في تفسيره .

                          [ ص: 113 ] فبهذه الأسباب أبطلوا مزية كتاب الله وخاصيته في رفع الخلاف والتفرق المفسدين لأمر الملة والأمة اتباعا لسنن من قبلهم وهم لا يشعرون ؛ لأنهم جعلوه هو موضع الخلاف أيضا ، قال - تعالى - : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ( 2 : 213 ) وقال - تعالى - : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ( 4 : 59 ) .

                          فالرد إلى كتاب الله وما بينه من سنة رسوله ؛ لإزالة التنازع وحسم الخلاف تفاديا من التفريق والتفرق المنافي لوحدة الدين ، يتوقف على جعل الكتاب وبيان الرسول له فوق التنازع واختلاف المذاهب والشيع ، وإلا كان الدواء عين الداء .

                          فإن قيل : إن القرآن ليس موضوع اختلاف بين الشيع والأحزاب المختلفين في المذاهب الإسلامية ، فهم مجمعون على أن من رد شيئا منه كان مرتدا عن الإسلام - إن كان قد عد من أهله - وإنما الاختلاف في فهمه ، وأما السنة فاختلفوا في رواية بعضها ، وفي فهم بعض ، ومن صح عنده شيء يتعلق بأمر الدين وجب الأخذ به في كل مذهب من المذاهب التي يعتد بإسلام أهلها ، والاختلاف في فهم ما كان غير قطعي الدلالة ضروري لا يتناوله مثل قوله - تعالى - : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( 3 : 105 ) .

                          ونجيب عن هذا - أولا - بأنهم إنما كانوا كذلك في كل ذلك قبل الفتن وعصبية المذاهب ، وأما بعدها فقد صرح بعض كبار فقهاء الحنفية بأن الأصل عندهم في كل حكم كلام أصحابهم ، فإن وجدوا آية تخالفه ( ! ! ) التمسوا لها ناسخا ، فإن لم يجدوا أولوها ، وإن وجدوا حديثا مخالفا له ( ! ! ) بحثوا في إسناده ، فإن وجدوا فيه مطعنا نبذوه ، وإلا فعلوا في التفصي منه ما يفعلون في التفصي من القرآن ( ! ! ) وقد جرى على ذلك أهل كل مذهب إلا أفرادا من كبار النظار خالفوا المذهب في بعض المسائل الكلامية والأصولية بالدليل ، وبعض كبار المحدثين رجحوا بعض الأحاديث الصحيحة الصريحة على المذهب ، وإن شئت فراجع بعض الشواهد على ردهم لها في " كتاب إعلام الموقعين " للمحقق ابن القيم . و - ثانيا - بأن الله - تعالى - يكلفهم ألا يجعلوا ما ليس قطعي الدلالة سببا للتفرق والتعادي ، وتأليف الأحزاب والشيع التي يلقن أتباع كل منها فهم رجل أو رجال يسمونه مذهبهم ، ويتعلمون معه الرد على مخالفيهم وتفسيقهم أو تكفيرهم ، وبهذا كان الاختلاف ضارا ومفسدا على المسلمين ، ومن كان قبلهم من أهل الملل أمور دينهم ودنياهم ، وهو المراد بقوله [ ص: 114 ] تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ( 6 : 159 ) الآية . ولولاه لما كان أولئك العلماء الأعلام من المعتزلة والأشعرية يتنابزون بالألقاب ، ويتبارون بالسباب ، ويتهاجون بالأشعار ، كقول الزمخشري المعتزلي بعد تفسيره لآية الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها : ثم تعجب من المتسمين بالإسلام ، المتسمين بأهل السنة والجماعة ، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ؟ ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة ، فإنه من منصوبات أشياخهم - يعني بالبلكفة قولهم : إنه - تعالى - يرى بلا كيف ؛ أي : أن رؤيته ليست كرؤية أهل الدنيا بعضهم لبعض فيما يلزمها من كون المرئي جسما كثيفا تحيط به أشعة البصر - ثم قال : والقول ما قال بعض العدلية فيهم :

                          وجماعة سموا هواهم سنة لجماعة حمر لعمري موكفة     قد شبهوه بخلقه وتخوفوا
                          شنع الورى فتستروا بالبلكفة

                          يعني بالعدلية جماعته المعتزلة ؛ فإنهم سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد . فانظر إلى جعله إثبات الرؤية الثابتة في الأحاديث المتفق على صحتها منافيا للاتسام بالإسلام ، والتسمي بأهل السنة ، وهو يعلم أنهم ينفون التشبيه في الرؤية بالتصريح كما ينفيه هو ، فلولا تعصب المذهب لما ألزمهم إياه بدلالة اللزوم الضعيفة التي قالوا فيها " لازم المذهب ليس بمذهب " قيل مطلقا وقيل فيما لم يدل على التزام صاحب المذهب له ، وأما ما صرح بنفيه فلا وجه لإسناده إليه ألبتة ، ومن نسبه إليه ، وذمه به كان ظلوما جهولا .

                          ولو أن الزمخشري وشاعر العدلية لم يقولا ما قالا من الطعن والهجو في أهل السنة ، بأن اكتفى الزمخشري في تأويل أحاديث الرؤية بما أولها به من كون الرؤية فيها عبارة عن كمال المعرفة الجلية ، لما جوزيا على ذلك بمثل ذنبهما أو أكثر كما قال أحمد بن المنير الإسكندري في ( الانتصاف ) حاشيته على الكشاف :


                          وجماعة كفروا برؤية ربهم     حقا ووعد الله ما لن يخلفه
                          وتلقبوا عدلية قلنا أجل     عدلوا بربهم ، فحسبهم سفه
                          وتلقبوا الناجين ، كلا إنهم     إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه

                          وللشيخ تاج الدين السبكي صاحب ( جمع الجوامع ) وغيره مثل هذا الشعر المحزن ، والبادئ بالشر أظلم ، وهؤلاء الذين هجوا عدلية المعتزلة بمثل ما هجا به شاعرهم أهل السنة كافة ، هم من الأشعرية الذين يقولون مثلهم بالتأويل ، ويشنعون على إخوانهم من الحنابلة ، وغيرهم من السلفيين في بعض مسائل التفويض كالنصوص في علو الله - تعالى - عن خلقه ، واستوائه على عرشه ، التي اتبعوا فيها إجماع السلف أو جمهورهم الأعظم في إمرارها ، كما جاءت مع تنزيهم الرب - تعالى - عن مشابهة الخلق والتحيز والحد والحلول ؛ لأن أصل [ ص: 115 ] عقيدتهم أنه تعالى مباين لخلقه بذاته وصفاته ليس كمثله شيء ( 42 : 11 ) بل أول الإمام أحمد بن حنبل نفسه نصوص المعية كقوله - تعالى - : وهو معكم أينما كنتم ( 57 : 4 ) فخصه بالعلم .

                          فالحق الواقع أن المختلفين في فهم النصوص من المسلمين الصادقين يؤمنون بها ويعظمونها ، ولكن غلب على قوم ترجيح جانب التنزيه حتى انتهى ببعضهم إلى التعطيل ، وجعل في ذلك حتى وقع بعضهم في التشبيه فعلا ، كأن الكتاب والسنة خلوا من المجاز والكناية في ذلك مع العلم بأن ما عدا اسم الجلالة من ألفاظ اللغة قد وضع قبل نزول القرآن للتعبير به عن المخلوقات وشئونها ، فالفريقان أرادا تعظيم الرب - تعالى - ، وسد ذريعة القول في ذاته وصفاته بغير الحق الذي يرضيه ، هؤلاء خافوا التعطيل برد شيء من النصوص أو تحكم الأهواء في تأويلها - وأولئك خافوا الوقوع في تشبيه الرب سبحانه بخلقه ، وسد ذريعة ما يعد نقصا في حقه ، فالنية كانت حسنة من الجانبين كما قال شيخنا الشيخ حسين الجسر الطرابلسي - رحمه الله تعالى - في درسه عند قراءة شرحي السنوسية والجوهرة .

                          ولكن الذين ضلوا بالتأويل والتعطيل كثيرون حتى خرجت به عدة فرق من الملة بعضهم باطنا وظاهرا ، وبعضهم باطنا لا ظاهرا ، كالباطنية الذين تركوا أركان الإسلام من صلاة وزكاة وحج وصيام ، زاعمين أن لها معاني غير ما عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وأجمع عليه المسلمون ، وكغلاة الصوفية الذين ذهبوا في التأويل إلى ما وراء طور العقل والنقل وأساليب اللغة ، فادعوا أنهم يرون الله - تعالى - عيانا في جميع الصور ويتلقون عنه كالأنبياء ، وأن فيهم من هم أفضل من الأنبياء ، وأعلم بالله - تعالى - ، ومنهم من ادعى رفع التكليف عمن بلغ مقاماتهم في المعرفة ، بل منهم من غلا في وحدة الوجود إلى ادعاء الربوبية للبشر والبقر ، والحجر والمدر ، وما يستحي أو يتنزه قلم المتدين الأديب عن ذكره - ، وإلى عدم التفرقة بين موحد ومشرك ، ومؤمن وكافر ، وبر وفاجر ، وعادل وجائر ، وطيب وخبيث ، ولا بين نافع وضار ، وطهور ورجس . ويستدلون على عقائدهم أو مزاعمهم بالآيات والأحاديث ، بضروب من التأويل ، وقد قال بعضهم :


                          عقد الخلائق في الإله عقائدا     وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

                          ولم يقع من فرقة تأخذ بظواهر نصوص الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، في مثل هذا الضلال البعيد ، فهؤلاء الظاهرية ومن يسمونهم غلاة الحنابلة من أقوى المسلمين إيمانا ، وأصحهم إسلاما ، وما رموا به من التشبيه والتمثيل الذي نفاه النص والعقل ظلم ؛ سببه التعصب المذهبي . فإذا كانوا يثبتون للرب - تعالى - كل ما أثبته [ ص: 116 ] لنفسه في كتابه ، وأثبته له رسوله فيما صح من حديثه ، حتى فيما يفوضون كنهه إليه - تعالى - للاعتراف بأن عقولهم لا تحيط به ، فهل يعقل أن يثبتوا له ما نفاه عن نفسه بقوله ليس كمثله شيء ( 42 : 11 ) وهو مما يعقلونه ولا يعقلون ضده ؟ كلا إن تعصب أصحاب النظريات الكلامية من المعتزلة ، ومن يقرب منهم من متأولة الأشعرية هم الذين افتاتوا عليهم بما ألزموهم إياه مما نفوه من لوازم ما صح في الكتاب والسنة من علوه تعالى على خلقه واستوائه على عرشه ، وكونه ينزل إلى سماء الدنيا ، ويحب ويبغض ويضحك إلخ . مع استصحاب نص التنزيه ، فكل ذلك مما يطلق على الخلق والخالق مع انتفاء التشبيه ، وإنما ذنبهم عندهم أنهم لا يستعملون نظريات أفكارهم في التحكم بتأويل هذه النصوص ، ولم يكلف الله - تعالى - أحدا من خلقه هذه النظريات الفلسفية الكلامية ، وإنما كلفهم الإيمان بجميع ما جاءهم به رسله - صلوات الله وسلامه عليهم - وأصل الدين الذي بعث الله - تعالى - به جميع رسله إلى خلقه هو أن يعبدوا الله - تعالى - وحده ، ولا يشركوا به شيئا من خلقه ، وأن يعبدوه بما شرعه لهم دون غيره ؛ إذ ليس لغيره أن يشرع شيئا من الدين بدون إذنه . فالله - تعالى - قد شرع الدين لجميع أفراد الأمة ، وهذه الفلسفة الكلامية من دقائق النظريات الفكرية التي انفرد بالغوص عليها أفراد معدودون من أذكياء الأمم فتفرقوا فيها واختلفوا ؛ لأن التفرق والاختلاف من لوازمها البينة ، فعصوا الله - تعالى - في نهيه عن التفرق والاختلاف في الدين ، فكيف يقول عاقل إن جميع المؤمنين قد كلفوها ، وإذا كانت صحة الإيمان تتوقف عليها فكم عدد المؤمنين في الأمة كلها ؟ وإذا كان الحق فيها واحدا كما يقولون فكم عدد أهل الحق منهم ؟ وكيف السبيل لدى كل من احتكر الحق فيها لنفسه إلى تلقين السواد الأعظم من الأمة ما يراه بحيث لا يقبل سواه ؟ فإن كان هو أصل الدين الذي لا يقبل الله غيره ، ففهم الدين متعذر على أكثر الأمة .

                          وأما ما كان عليه السلف الصالح في صدر الأمة فكان سهلا ويسيرا كما وصف الله ورسوله هذا الدين وهذه الملة ، كان جميع المسلمين في الصدر الأول يصفون الله - تعالى - بجميع ما وصف به نفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله من غير تشبيه له بأحد من خلقه ، ومن غير هذه الفلسفة الكلامية التي لم يشرعها الله - تعالى - ، ولا أنزل بها من سلطان ؛ ولذلك استنكر جميع أئمة السلف علم الكلام وعدوه بدعة سيئة ، ومن خاض فيه بعد ذلك من أتباعهم ؛ فلأنهم ظنوا أنه يتوقف عليه إبطال البدع وإزالة الشبهات المشكلة في الدين لا لذاته ، وأرادوا به إزالة الخلاف فزادهم خلافا وافتراقا ، حتى صار أكثرهم يزعم أن العقائد الصحيحة لا تعرف إلا به ، ويحصرها كل فريق في مذهبه ، ولا سلامة للمسلمين في دينهم ودنياهم إلا بالرجوع في الدين المحض إلى ما كان عليه السلف ، وفي أمور الدنيا إلى ما أثبته العلم

                          [ ص: 117 ] والتجارب في هذا العصر ، وأن ينبذوا جميع الأسباب والكتب التي كانت مثار الخلاف والتفرق ، وراء ظهورهم ، ولا يجعلوا قول عالم من علمائهم ولا فهمه سببا للتعدي والتفرق بينهم بل يعدوا كل ما ليس قطعيا من كتاب ربهم وسنة رسولهم ، واجتماع سلفهم من الاجتهاد الذي يعذر به من قام دليله عنده ومن وثق به ، ولا يكون حجة على غيره ، وقد فصلنا القول في هذا في مجلتنا ( المنار ) مرارا . فبهذا يزول ضرر اختلاف المذاهب في الأصول والفروع ، ويتراجع الجميع إلى وحدة الدين وأخوة الإسلام ، فينالوا من سعادة الدنيا ثم الآخرة ما شرع الله لهم الدين لأجله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية